نهاية ''الدورة التقدمية'' في أميركا اللاتينية

نهاية ''الدورة التقدمية'' في أميركا اللاتينية

22 مايو 2016

متظاهرون يرفعون دمى تمثل روسيف ولولا بسان باولو (11مايو/2016/Getty)

+ الخط -
لم يكن تصويت البرلمان البرازيلي، بغرفتيه، على البدء في إجراءات إقالة الرئيسة ديلما روسيف، على خلفية اتهامها بالتلاعب في بياناتٍ حكوميةٍ، مجرد حلقةٍ في الصراع السياسي بين قوى اليمين واليسار، بقدر ما يتعلق الأمر بمنعطفٍ سياسيٍّ وفكري، يكاد يقترب، في دلالته، مما حدث في نهاية الثمانينيات، حين انتهت الحرب الباردة بتفكيك المعسكر الشرقي، وتلاشي اليوتوبيات الكبرى التي وسمت القرن المنصرم.
يرى كثيرون ما يحدث في البرازيل امتداداً لما بدأ في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي في الأرجنتين، حين وصل موريسيو ماكري (يمين الوسط) إلى منصب الرئاسة خلفا لكريستينا دي كيرشنير. ويُرجح أن يتعزّز ذلك في فنزويلا، على ضوء سيطرة المعارضة على البرلمان، وسعيها إلى الإطاحة بالرئيس نيكولاس مادورو. وفي البيرو التي قد تعرف الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية فيها، الشهر المقبل، فوزَ ابنة الديكتاتور السابق، ألبرتو فوجيموري، الأمر الذي يرجّح أن ما عرف بـ ''الدورة التقدمية'' في أميركا اللاتينية يكاد يشرف على نهايته، بعد أكثر من عقد ونصف من الحضور السياسي والنضالي لقوى اليسار. وهي الدورة التي بدأت ملامحها تتشكل بوضوح، مع نهاية التسعينيات، عندما فاز هوغو تشافيز في انتخابات الرئاسة في فنزويلا في 1998، ثم تبعه بعد ذلك في 2003 كل من لولا دا سيلفا في البرازيل مرشحاً عن حزب العمال، و'نِستور كيرشنير في الأرجنتين عن حزب العدالة البيروني. وبذلك، شكلت هذه الدول الثلاث الأضلاع السياسية والرمزية لهذه الدورة، قبل أن تمتد لتشمل بلدانا أخرى، مثل بوليفيا وتشيلي والإكوادور.
استطاعت اقتصاديات هذه الدول اًن تحقق إنجازاتٍ لافتة، في ظل ارتفاع نسبة النمو، وتزايد صادرات المواد الخام، وارتفاع أسعار البترول. ولإعطاء هذه الإنجازات زخماً سياسياً ونضالياً انفتحت الحكومات اليسارية الجديدة على الحركات الاجتماعية، كالسكان الأصليين (حالة إيفـو موراليس في بوليفيا) والأقليات والخضر والمهمشين، ما خوّلها توسيعَ قاعدتها وفتحَ هوامش جديدة أمام الحراك المجتمعي، بتبنيها سياساتٍ اجتماعيةً في مجالات التشغيل والتعليم والصحة والحد من الفقر والزيادة في الإنفاق العمومي، الشيء الذي أسهم نسبياً في تشكل طبقة وسطى، بما لذلك من دلالاتٍ سياسية وسوسيولوجية.
غير أن الأزمة الاقتصادية والمالية، وانخفاضَ أسعار المواد الخام، وتراجعَ أسعار النفط،
وارتفاعَ معدلات التضخم، وإحجامَ قوى اليمين عن استثمار أموالها في مشاريع منتجة، ومواكبة لما تقوم به هذه الحكومات، قلص ذلك كله خيارات الأخيرة، خصوصاً فيما يتعلق بالسياسات الاجتماعية الموجهة للطبقات الفقيرة والمهمشة، الأمر الذي استغله اليمين الذي رفض أي إصلاحٍ ضريبي، من شأنه الإسهام في تمويل جزءٍ من كلفة هذه السياسات. ولمواجهة هذا الوضع، وامتصاص تداعياته، لجأت الحكومات إلى تبني خطط تقشفية، مصحوبة بخطاب شعبوي أحيانا ( تشافيز في فنزويلا)، ما أثار غضب فئاتٍ واسعةٍ من الطبقة الوسطى التي بدأت تقترب من مواقف اليمين الذي استغل ذلك، واستثمره من خلال نفوذه المالي والاجتماعي والإعلامي، ما أفضى إلى تقلصٍّ واضحٍ في شعبية هذه الحكومات، لا سيما مع تزايد فضائح الفساد التي أضرّت كثيراً بمصداقيتها وصورتها أمام الرأي العام. وبطبيعة الحال، لم تكن الولايات المتحدة، ومعها المؤسسات المالية والدولية الكبرى، بعيدةً عن ذلك كله، من خلال سعيها، بالوسائل كافة، إلى تضييق الخناق على قوى اليسار الحاكمة، ودفعها إلى الباب المسدود، لتصطدم بقطاعاتٍ واسعة من الشارع.
يطرح الحدث اللاتيني قضايا في غاية الأهمية، منها ما يخصّ طبيعة التغيرات التي عرفتها تحالفات اليمين التقليدي في هذه البلدان، منها ما يرتبط بالتحدّي الذي بات يواجه اليسار في مختلف أنحاء العالم على الصعد كافة. ولعقود طويلة، شكل التحالف الاجتماعي والسياسي بين ملاك الأراضي الكبار والمؤسسة العسكرية أحد مفاتيح بناء القوة والسلطة عبر الانقلابات العسكرية. لكن التحولات التي عرفها العالم، في الربع قرن الأخير، جعلت استمرار هذا التحالف، في صورته التقليدية، أمراً صعباً، لا سيما في ظل الانتهاكات الصارخة للحقوق والحريات التي ميزت الأنظمة التي انبنت على أساسه. لذلك، عمل هذا اليمين على تنويع خياراته وتحالفاته، بالعمل من داخل المؤسسات الدستورية، وفي مقدمتها البرلمان، وهو ما حدث بالضبط في البرازيل.
يؤكد ما يحدث في أميركا اللاتينية أزمةَ اليسار الذي يبدو عاجزاً عن تقديم إجاباتٍ نظريةٍ واقتصاديةٍ مقنعةٍ في مواجهة تمدّد الليبرالية الجديدة التي أصبحت تحدّد الخطوط الكبرى للسياسات الاقتصادية والاجتماعية. وبصيغة أخرى، يمكن القول إن أكبر تحدٍّ يواجه الآن هذا اليسار يتمثل في كيفية التوصل إلى ''وصفةٍ'' يجمع فيها بين التقيد بالديمقراطية والحرية وقيم الحداثة والحرية الاقتصادية التي قد لا تعني غير الحفاظ على الحد الأدنى من مصالح اليمين بكل أطيافه، وتنفيذ سياساتٍ اجتماعيةٍ أكثر استجابة لتطلعات الفئات الفقيرة والمتوسطة.