توني بلير ... جرو إسرائيل

توني بلير ... جرو إسرائيل

27 يونيو 2014

بلير يصافح نتنياهو في تأبين شارون (يناير/2014/Getty)

+ الخط -


يبعث أمر رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، على الاستغراب، والدهشة ربما، ذلك أنه، على الرغم من إخفاقاته الكبيرة في العراق وفي الشأن الفلسطيني، إلا أنه يواصل الكلام، بأسلوب وعظيّ، عن مشكلات منطقة الشرق الأوسط وحلولها. فبعد سبع سنوات من تعيينه مبعوثاً خاصاً للجنة الرباعية للسلام في الشرق الأوسط (الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا)، لا تزال الأراضي الفلسطينية المحتلة تحت الحصار، وبعد أحد عشر عاماً من مشاركته في غزو العراق واحتلاله، يتمزق هذا البلد ولا ينعم بالأمن والاستقرار السياسي.
ومن غير المتوقع أن يعيد بلير النظر في حماقاته، أو يعترف بأخطائه، أو يتحمل مسؤولية ما ارتكبه، بل إن الانتقادات الكثيرة التي تُوجّه إليه لا تثير أي انزعاج لديه، فتراه يقول إنه، بغض النظر عن الأوضاع الراهنة في العراق وفلسطين، فإنهما، في أي حال، كانا سيعانيان من الاضطراب.
ولأن أمر هذا الرجل على هذا النحو، فإن السؤال الساخر الذي جهر به عمدة لندن، بوريس جونسون، يبقى مسوّغاً ووجيهاً: هل بلير مجنون. وكذلك استيضاح مسؤول فلسطيني عن أي فائدةٍ لبلير، فيما هو عديم الفائدة، ولا طائل منه.
واقع الحال أن توني بلير غير ذلك. هو، بالنسبة لأنصاره، يعد سياسياً بعيد النظر، فقد كان يأمل في كبح جماح الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش، الذي عقد العزم على مهاجمة العراق بعد "11 سبتمبر" 2001. ولاحقاً، استثمر حركته السياسية وعلاقته الجيدة مع واشنطن، للمساعدة في ما توهّمه دفعاً لقضية السلام في الشرق الأوسط.
وللإنصاف، من الخطأ أن يلام بلير على الشلل الذي أصاب اللجنة الرباعية، فيما يخص السلطة الفلسطينية، في ضوء الخلافات الحادثة بين أعضاء هذه اللجنة. المسألة أكثر عمقاً، فبعد تحول السياسة البريطانية في التسعينيات باتجاهٍ أكثر تابعية للولايات المتحدة، راح بلير، وهو سياسي طموح، بعد واقعة "11 سبتمبر" في نيويورك وواشنطن، يدعو من أجل تغيير منطقة الشرق الأوسط إلى استخدام القوة الأميركية.
وقبل أيامٍ من بدء الحرب على العراق، في مارس/آذار 2003، ربط بلير غزو العراق بأخذ الفلسطينيين إلى المنظور الإسرائيلي لعملية السلام، في تأكيده على الأهمية الاستراتيجية للسلام الواعد في فلسطين، من أجل شن الحرب ضد العراق، في إشارة إلى منهجه الذي سماه "الإنصاف". فقد كان هو من ضغط على بوش، من أجل تدشين اللجنة الرباعية و"خارطة الطريق للسلام"، لتشتيت الضغوط العربية. وقد عرض العرب، في مؤتمر القمة العربية عام 2002 في بيروت، على إسرائيل العرض الأكثر سخاءً في تاريخهم، هو: اعتراف جميع العرب بإسرائيل، وتطبيع العلاقات معها في مقابل انسحابها من الأراضي المحتلة، والتفاوض بشأن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين. ولكن، بناءً على إصرار رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه، أرييل شارون، عمل بلير وبوش على إحباط ذلك العرض العربي، وإدراجه تفصيلاً ثانوياً قليل الأهمية في خطةٍ، اعتبرت خريطة طريق لثلاث سنوات، لم تؤد، في النهاية، إلى أي شيء.
ومعلوم أن توني بلير هو من استحدث لنفسه منصب المبعوث الخاص للجنة الرباعية في حزيران/يونيو 2007، وتم الإعلان عن ذلك، بعد ساعات من استقالته من رئاسته الحكومة في بريطانيا، وقد ساعده هذا المنصب في الوصول، بسهولة، إلى عديدين من قادة العرب والعالم، والذين قدّم لهم، لاحقاً، خدماته الاستشارية.


ولأنه شغوف بالسلطة، أعقب بلير تحالفه الوثيق والعسكري مع الولايات المتحدة بشأن العراق بالتواطؤ مجدداً مع إسرائيل، لأنه على قناعة بأهمية الالتصاق بالأقوياء، باعتباره السبيل الوحيد لإحداث تطور نوعي شخصي. وصدوراً عن ذلك، عمل على إصلاح الشؤون المالية والأمن والإدارة للسلطة الفلسطينية، مع غضَّه النظر عن توسع إسرائيل في إقامة مستوطناتها على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعن تشديد قبضتها على مناطق الحكم الذاتي التي تديرها السلطة، كما أنه عمل على أن تكون هذه السلطة أكثر اعتماداً على إسرائيل. ونتيجة لذلك، أصبحت مهمة قوات الأمن الفلسطينية حماية المستوطنين الإسرائيليين من الفلسطينيين، بدلاً من حماية هؤلاء من أولئك.
لهذا السبب، ليس أمراً اعتباطياً، أو عرضياً عفوياً، أن بلير هاجم قرار القيادة الفلسطينية السعي إلى الحصول على اعتراف الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية، وقد وصفه بأنه قرار "صدامي جداً". وقد أمطرته إسرائيل بثناء كثيرٍ لموقفه هذا، فيما قال الفلسطينيون، المفترض أنه مبعوث معني بتحقيق السلام الذي ينشدونه، إنه يتحدث مثل "دبلوماسي إسرائيلي فيروّج سياساتها". وهذا الوصف يمكن إضافته لما نعت به بلير سابقاً، أنه دبلوماسي أميركي، أو "كلب بوش" الذي يبيع سياسات البيت الأبيض.
وهذه تصريحات جديدة له، تؤكد أنه جرو رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وقد قال فيها إنه لا علاقة للانقسامات الداخلية الفلسطينية، والقيود المفروضة على القيادات الفلسطينية (وصفها بأنها من صنعهم!) بنحو خمسة عقود من الاحتلال الإسرائيلي. إنه يرفض مبدأ الربط بين صعود الجماعات الإسلامية المتطرفة والتدخلات الأجنبية، بل ويشيد بدور إسرائيل لاعباً رئيسياً في الحملة الغربية ضد "التطرف الإسلامي".
طريقة التفكير هذه هي جوهر الإشكال الحقيقي في قصور النظر لدى بلير وغيره إلى حقائق الواقع. إذ يظهر تاريخ المنطقة العربية الحديث أن هناك علاقة سببية، وأثراً مباشراً بين الاحتلال والتطرف الديني، فاحتلال إسرائيل أراضي الفلسطينيين ووطنهم وقمعها لهم هو ما أدى إلى ظهور حركة حماس، كما أن الاجتياح الإسرائيلي لبنان عام 1982 من أهم عوامل ظهور حزب الله. وبالمثل، ما كان لتنظيم القاعدة أن ينشأ لولا غزو الروس أفغانستان واحتلالها، ولا مجازفة في اعتبار ولادة تنظيم القاعدة في العراق ردَّ فعل على الغزو الأميركي.
يعرف توني بلير ما يقوله جيداً، فهو ليس جاهلاً ولا ساذجاً، إنه مستعد دائماً للدفاع عن مواقفه المتأصلة لديه ضد العالم الإسلامي. كان البوق السياسي للتدخلات العسكرية الأميركية والغربية في العراق والمنطقة. وأيد الانقلاب العسكري الذي قام به الجيش في مصر، ودافع عن حملة القمع التي قام بها الجنرال عبد الفتاح السيسي في مصر ضد المعارضين.
وتتفق وجهات نظر ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي السابق) والمحافظين الجدد في أميركا بشأن بلير. أما الرئيس باراك أوباما، فإنه، اتفقنا أو اختلفنا معه، يتخذ مسلكاً آخر، على غير المواعظ التي تبعث على الهزء منها، والتي يلقيها المبعوث الخاص للجنة الرباعية. فخلافاً للأخير، يعتقد أوباما أن إسرائيل لا ينبغي أن تنتظر حدوث تغييرات في المنطقة، قبل أن تعطي للفلسطينيين استقلالهم وحريتهم. لذا، حان الوقت أن يصمت توني بلير.

___________________________________________
المقال نشر الجمعة 27 يونيو حزيران 2014 في صحيفة نيويورك تايمز الأميركية ونقله "العربي الجديد" إلى العربية.

 

 

 

8A5BA135-D5D2-4237-A9BF-70872A41FC74
مروان بشارة

كاتب وباحث فلسطيني، مقيم في الولايات المتحدة، المحلل السياسي في قناة الجزيرة الإنجليزية، ومقدم برنامج "إمباير"، ومؤلف كتاب "العربي الخفي: وعود الثورات العربية مخاطرها"