عن "حماس" وقاسم سليماني

عن "حماس" وقاسم سليماني

07 يناير 2022
+ الخط -

كما كان اسمه يثير توتراً وخلافاً عربيّاً في حياته، فإنه بعد عامين على اغتياله، لا يزال يستفز الانقسامات نفسها والتشنج نفسه في صفوفنا. إنه الجنرال، قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني سابقاً، الذي قُتل في غارة جوية أميركية بطائرة مسيّرة في بغداد، في الثالث من يناير/ كانون الثاني من عام 2020. ثمَّةَ من يعدُّ سليماني رجلاً طائفياً، مسكوناً بمشروعٍ "إيراني/ فارسي/ شيعي". يؤمن كارهوه بأنه كان مجرم حرب، ويحمّلونه مسؤوليات جرائم إبادة طائفية، والمساهمة في وأد طموحات شعوب عربية في العراق وسورية واليمن ولبنان. في المقابل، ثمَّة بيننا من يراه بطلاً، تصدّى للمؤامرات الغربية، وتحديداً الأميركية، ومحورها التابع عربياً، في مناطق عدة من فضائنا، كما في العراق وسورية واليمن. أمَّا أبرز الإنجازات في سجل "شرفه"، كما يرى محبّوه، فهو دعمه وعمله على التمكين للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية في وجه إسرائيل. هذا المعطى الأخير، خصوصاً في سياقه الفلسطيني السنِّيِ، وتحديداً في قطاع غزّة الذي تحكمه حركة مقاومة فلسطينية، هي "حماس"، وفي ظل حصارٍ رسميٍّ فلسطينيٍّ، مردوفاً بتضييق عربيٍّ متواطئٍ مع الحصار والعدوان الإسرائيلي المسنود غربياً، هو ما يمثل أرضية الخلاف الأكبر، وذلك التوتر في الأخذ والردّ بين أنصار سليماني ومحور إيران (حزب الله، نظام بشار الأسد، الحوثيون، الحشد الشعبي) وبين من يرون فيهم مجرمين يتوسلون شرعية لعدوانهم وجرائمهم بحق شعوبٍ عربيةٍ باسم فلسطين ومكانتها المرموقة في الوعي العربي.

لم يخفِ كاتب هذه السطور من قبل أنه لا يؤمن بقداسة ولا حصانة لسليماني والمحور الذي كان يمثله. كانت قناعتي، وما زالت، أن من يدعم تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي، ويناصر حقوق شعبها في الحرية والكرامة والاستقلال، لا يمكن له أن يكون ضد حرية أي شعب عربيٍّ آخر وكرامته. وكنت قد كتبت في الثالث من ديسمبر/ كانون الثاني الماضي مقالاً في "العربي الجديد" تحت عنوان: "عن مركزية فلسطين في الوعي العربي"، جاء فيه: "لكن، حتى تستمر هذه المكانة الخاصة بفلسطين في وعي الأمة، وحتى لا تتعرّض لهزّات مرحليةٍ هنا وهناك، فإن هذا يتطلب من أصحاب القضية أن لا يجعلوا منها قضية خلافية، وأن لا يضعوها في حالة تناقضٍ مع جراحات الأمة الأخرى، الغائرة والنازفة. مركزية القضية الفلسطينية لا تعني أحاديتها في فضائنا، ولا تسفيه عدالة تطلعات شعوب عربية أخرى تسعى للانعتاق من ربقة القمع والظلم والاستعباد". جاء في المقال أيضاً: "لا يتردّد بعض المتصارعين في فضاء العرب وساحتهم في محاولة توظيف فلسطين درعاً يتمترسون وراءه، أو استخدامها ورقة توتٍ علّهم يسترون بها عوراتهم، أو حتى اعتبارها كبش فداء لنيل رضا أعداء هذه الأمة ودعمهم. لكن الكارثة تكون أكبر حين يتواطأ أصحاب الشأن من الفلسطينيين أنفسهم في مثل هذه المساعي المبتذلة. مثلاً، من المفهوم أن تلجأ المقاومة الفلسطينية لإيران ضمن حسابات الضرورة، التي هي بالمناسبة مشتركة بين الطرفين، ولكن من غير المقبول أن يتحوّل تحالف الضرورة إلى عداء نحو الشعوب العربية في سورية والعراق واليمن ولبنان، وإلى التشكيك في آمالها وعدالة قضاياها".

إيران ليست جمعية خيرية، بل هي دولة إقليمية كبيرة بأجنداتٍ طائفية وجيواستراتيجية

للأسف، هذا ما جرى، مرة أخرى، مع حلول الذكرى الثانية لاغتيال سليماني. خرج علينا بعض قادة حركتي الجهاد الإسلامي وحماس في قطاع غزة، وتحديداً محمود الزهار، بخطاباتٍ تذهب أبعد من مجرّد تعداد "مآثر" الرجل في دعم المقاومة الفلسطينية وصمودها وتعزيز إمكاناتها في مواجهة العدوان الصهيوني. الأدهى كان أن تنتشر صور سليماني في قطاع غزّة مستفزّة ملايين السوريين واليمنيين والعراقيين واللبنانيين، بل وحتى الفلسطينيين وغيرهم من العرب. لا يمكن أبداً أن يكون ذلك من باب "الضرورة السياسية" وحسابات المصالح، وخصوصاً عندما يؤكّد الزهار أن سليماني "قدّم روحه من أجل القدس"، وكأن اغتياله تمَّ على ثراها وفي أكنافها، لا في بغداد وهو في زيارة لتعضيد المشروع الإيراني في العراق!

لنتظاهر بالجهل، ولنقل إن إيران لا تضع شروطاً على المقاومة الفلسطينية مقابل تلقيها الدعم، وهو ما كان قاله الأسبوع الماضي رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في لقائه مع برنامج "المقابلة" على قناة الجزيرة. تُرى، من سيصدّق ذلك الآن، خصوصاً أن ما نراه من حركة حماس، تحديداً في قطاع غزة، يوحي بغير ذلك؟ أركّز على "حماس" هنا، ذلك أن "الجهاد الإسلامي" تفاخر جهاراً نهاراً بانتمائها إلى المحور الإيراني بأضلاعه السورية واللبنانية والعراقية واليمنية. هل تصدّق قيادة "حماس"، فعلاً، أن الناس لم تنتبه إلى محاولات حزب الله إفشال زيارة رئيس المكتب السياسي السابق للحركة، ورئيس جناحها في الخارج، خالد مشعل، للبنان الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)؟ تحت ضغوط من الحزب، تراجع الرئيس ميشال عون، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، عن التقائه. فيما التقاه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في منزله، وليس في مبنى الحكومة. الحقائق ساطعة سطوع الشمس، والمعلومات متوافرة من أفواه اعتذاريي حزب الله وأبواقه، وحتى من المقرّبين من صُنَّاعِ القرار في "حماس". لم يرحب حزب الله بمشعل في لبنان، لأنه تحت قيادته للحركة خرجت "حماس" من سورية أواخر عام 2011، ورفضت أن تكون في صفِّ المجرم بشار الأسد ضد شعبه. إذا لم تكن هذه محاولة فجّة للتدخل في التشكيل القيادي للحركة، فماذا تكون؟ والحديث في هذا الموضوع يطول، والمعلومات المتداولة كثيرة عن محاولات إيرانية سابقة في هذا الإطار.

لا تجعلوا من فلسطين قضية خلافية عربياً، ولا تسوّغوا سفك دماء عربية أخرى باسمها

لا بد من تَبَصُّرٍ من قوى المقاومة الفلسطينية. إيران ليست جمعية خيرية، بل هي دولة إقليمية كبيرة بأجنداتٍ طائفية وجيواستراتيجية. ولعبة المصالح مع الدول لا تُدار بمنطق التسوّل، ولا حتى بمنطق القناعات الأيديولوجية، أو حسن النيات، بقدر ما تُدار بمنطق الحسابات وإدراك كنهها وخلفياتها. تحتاج إيران ورقة فلسطين في صراعها مع الغرب وإسرائيل، وكذلك في سياق تنافسها مع أنظمة عربية متواطئة لا يفتخر بها مواطن عربيٌّ شريف. والمقاومة الفلسطينية تحتاج الدعم والإسناد الإيراني. هناك مصالح مشتركة، والطرف الفلسطيني هو الأضعف فيها، ولكن هذا لا يعني تجاهل حقيقة الحسابات الإيرانية، أو بعضها، ولا ينبغي أبداً الانقياد المنفلت لها. ومن كان يظن أن طهران لن تعمل على اختراق صفوف المقاومة الفلسطينية وإيجاد تياراتٍ فيها مرتبطة عضوياً بها، ومن ثمَّ استلحاقها بأجنداتها، كما الحال مع حزب الله والحوثيين ومليشيات الحشد الشعبي، بل وحتى نظام الأسد، فهو واهم. ومن الضروري أن تعمل قوى المقاومة الفلسطينية على التأكّد من أن محاولات الاختراق هذه لم تحدُث فعلاً في صفوفها، خصوصاً عبر تمويل مشاريع ومؤسسات، بما فيها بحثية وخيرية، يقوم عليها بعض القيادات والمحسوبين عليهم بعيداً عن الأطر التنظيمية الرسمية. ولعل في تجربة "حركة الصابرين" التي أوجدتها إيران وموّلتها، عام 2014، في قطاع غزة عبر قيادات منشقة عن حركة الجهاد الإسلامي ما يغني عن كثير تفصيل. وبالمناسبة، كانت تلك الحركة مهتمة بنشر التشيع في القطاع، تماماً كما كانت مهتمة بالمشاغبة على حركتي حماس والجهاد الإسلامي والمزايدة عليهما في المقاومة بأجندة إيرانية خالصة، قبل أن يجري التعامل معها عام 2016.

"الطهورية السياسية" في سياقاتٍ كثيرة مجرد وَهْمٍ

إذاً، الضرورات السياسية شرٌّ محض في الغالب، خصوصاً في حالة الطرف الأضعف والمحتاج إلى الدعم، وهذا حال الفلسطينيين. ولكن، ثمَّة فرقٌ بين أن تدار الضرورات ضمن نهج استراتيجي واضح المعالم وأن تصبح الضرورات، كتكتيكات، هي الاستراتيجية بحد ذاتها، بحيث ينتهي الأمر إلى إدارة العمل السياسي المعقد بمنطق "الفهلوة"، خصوصاً مع الدول. على الجانب الآخر، ينبغي أن يدرك الجميع أن "الطهورية السياسية" في سياقاتٍ كثيرة مجرد وَهْمٍ. هذه حقيقة، شاء من شاء أن يعترف بها، وشاء من شاء أن ينكرها، سواء في صفوف من يعدون أنفسهم "تيار ممانعة"، أو خصومهم. أم هل، يا ترى، نسي "الممانعون" أنهم استدعوا عدواناً أميركياً على العراق عام 2003، وجاؤوا محمولين على دباباته؟ وهل نسوا أنهم وضعوا سورية تحت الوصاية الروسية؟ وكذلك حال السوريين والعراقيين واليمنيين واللبنانيين الكارهين إيران وأدواتها، لا ينبغي أن يتناسوا أنهم لم يتركوا باباً في واشنطن ولندن وباريس والرياض وأبو ظبي إلخ، إلا وطرقوه في محاولة لنيل دعمهم. هؤلاء ليسوا أقل عدواناً علينا، وسفكاً لدمائنا، نحن الشعوب العربية، من طهران. هي لعنة السياسة وضروراتها، ولا بد أن يكون هناك تفهم بين الجميع لها، ولكن الإفراط مرفوض وتجاوز الحدود ينقلب إلى الضد.

أنهي هنا بما سبقت الإشارة إليه: لا تجعلوا من فلسطين قضية خلافية عربياً، ولا تسوّغوا سفك دماء عربية أخرى باسمها. هذه أكبر كارثة استراتيجية تلحقونها بالقضية المركزية.