ثورة يناير والحكم العسكري في مصر

ثورة يناير والحكم العسكري في مصر

26 يناير 2022
+ الخط -

يعتقد الباحث الأميركي المتخصص في الشأن المصري، روبرت سبرنغبورغ، في كتابه المهم "مصر" الصادر في عام 2018، أنّ ثورة يناير لم تتمكّن من إحداث أيّ تغيير يذكر في طبيعة النظام العسكري الحاكم لمصر منذ 1952، وأنّ إنجازها الأهم يكمن في تعرية هذا النظام من خلال دفعه إلى إزالة القشرة المدنية التي نجح نظام الضباط في تغليف نفسه بها خلال العقود السبعة الأخيرة. ويعتقد سبرنغبورغ أنّ الهدف الأساسي للنظام المصري الذي تأسس في 1952 كان حماية انقلاب الضباط على الحكم الملكي، وأنّهم قاموا بذلك من خلال بناء نظام أمني يقوم على أضلع ثلاثة، أولها رئيس قادم من الجيش لا يخضع لحكم القانون أو الدستور، فسلطاته فرعونية الطابع، وهو مفوّض بإدارة البلاد بحكم أنّه قادم من المؤسسة الأهم، الجيش، والذي يمثل الضلع الثاني والأهم للنظام.

الجيش هو حامي النظام، ومنه يأتي الحاكم، ومنه كذلك يأتي عدد هائل من المسؤولين الذين تولوا المسؤولية السياسية بشكل مباشر من خلال عهد جمال عبد الناصر، أو ظلوا خلف الستار موزّعين على مناصب عليا في الدولة خلال عهدي أنور السادات وحسني مبارك. الجيش أيضاً هو المصدر الأهم للنخبة السياسة والاقتصادية التي تحكم مصر منذ 1952، فلحماية انقلاب 1952، سعى الضباط إلى حماية أنفسهم بالسيطرة على المرافق الأساسية في الدولة والمجتمع، سواء كانت تلك المرافق مؤسسات حكم، أو شركات اقتصادية، أو نوادي رياضية، أو وسائل إعلام وثقافة ونشر. وبعد سبعة عقود من سيطرة الجيش، باتت النخبة الحاكمة تقوم، بشكل أو بآخر، بالضباط وأولادهم وأحفادهم وترتبط بهم.

تراجعت مصر اقتصاديا وتعليمياً وثقافياً، من خلال تراجع جامعاتها ونخبتها الثقافية والفكرية التي سيطر عليها النظام لضمان ولائها له، ولو أدّى ذلك إلى انكفائها

أما الضلع الثالث لمثلث النظام الأمني الحاكم في مصر، أو مثلث الدولة العميقة كما يسمّيه سبرنغبورغ، فهو المؤسسات الأمنية والاستخباراتية التي أسّسها الضباط، وخصوصاً الرئيس القادم من الجيش، لحماية نفسه والنظام والتجسّس على خصومه بداية من داخل الجيش نفسه. ويعتقد سبرنغبورغ أنّ عبد الناصر أسّس الاستخبارات العسكرية للتجسّس على الجيش وحماية نفسه من نفوذ عبد الحكيم عامر ورفاقه. أما السادات ومبارك فقد سعيا إلى موازنة نفوذ الاستخبارات العسكرية من خلال تقوية الاستخبارات العامة، والتي يقودها في العادة ضابط جيش موالٍ لهما. وينطبق الأمر نفسه على قوات الحرس الجمهوري، والتي تأتي من داخل الجيش، لكي تحمي الرئيس من الجيش نفسه، هذا بالإضافة إلى جهاز أمن الدولة. وربما يفسّر هذا سبب اختيار مبارك المشير محمد حسين طنطاوي لمنصب وزير الدفاع وتركه فيه عشرين عاماً، فقبل صعوده هذا، أثبت طنطاوي ولاءه لمبارك، من خلال عمله رئيساً للحرس الجمهوري، وأثبت له أنّه رجل للنظام بلا طموح سياسي، وأنّه لن يمثّل تهديداً للرئيس كما فعل المشير محمد عبد الحليم أبو غزالة في العقد الأول من حكم مبارك. كما تمتّع عمر سليمان بثقة مبارك، لأنّه أيضاً لم يكن يمثل تهديداً له، ورضي بموقع بعيد عن سدّة الحكم، وبمراقبة محاولات مبارك توريث ابنه جمال في صمت. وربما يفسّر هذا أيضاً رفض المجلس الأعلى للقوات المسلحة الاستعانة بعمر سليمان، بعد تخلصه من مبارك في 11 فبراير/ شباط 2011، ورفضه كذلك ترشّحه للرئاسة، فالمؤسسات الأمنية المختلفة لا تثق ببعضها، وصعود المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى حكم البلاد كان يتطلب التخلّص من كل منافسيه الأمنيين بالأساس.

عموماً، ظل هدف الحكم العسكري المستمر منذ 1952 منع الانقلابات وحماية الرئيس القادم من الجيش، ومن ثم حماية نظام يوليو خلال مثلث الدولة العميقة السابق شرحه، والمشغول دائماً بالسيطرة على مقاليد الأمور ومصادر القوة والسلطة على مختلف الأصعدة، حتى لو أدّى ذلك إلى تأخر البلاد، لذا تمت السيطرة على مختلف مؤسسات الدولة، وتم القضاء على الأحزاب السياسية واستقلالية مؤسسات القضاء والدين والمجتمع، كما تم التخلص من النخب الاقتصادية والفكرية المستقلة، ونشر أفكار وطنية تعادي الأجانب والمعارضة، والشعب نفسه لو تطلب الأمر، ومثل تهديداً للحاكم العسكري ورفاقه والمؤسسة العسكرية.

والنتيجة، كما يحذر سبرنغبورغ، كانت تراجع مصر على الأصعدة كافة، بشكل يصعب إيقافه. تراجعت مصر سياسياً وأصبحت دولة ضعيفة، وفقاً للتقارير الدولية الخاصة بالفساد والاستقرار وكفاءة مؤسسات الحكم. تراجعت اقتصادياً، وتخلفت عن دول سبقتها في التنمية في نهاية القرن التاسع عسر كاليابان، أو في منتصف القرن العشرين ككوريا الجنوبية. تراجعت مصر أيضاً تعليمياً وثقافياً، من خلال تراجع جامعاتها ونخبتها الثقافية والفكرية التي سيطر عليها النظام لضمان ولائها له، ولو أدّى ذلك إلى انكفائها.

تميّز النشطاء المصريين على مختلف توجهاتهم بدرجة عالية من المثالية والانقسام بعدما ورث هؤلاء عقوداً من التجريف السياسي

ومنذ صراع عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، والذي أدّى إلى هزيمة مصر المهينة في حرب 1967، ولم ينتهِ إلّا بوفاة عامر أو التخلص منه بعد النكسة، حرص الحكّام العسكريون على إبعاد الجيش عن كرسي الرئاسة بأكبر قدر ممكن، سواء من خلال مؤسسات أمنية رقابية، كالاستخبارات العسكرية والاستخبارات العامة، أو التخلص من قادة الجيش الأكثر استقلالية وكفاءة وكاريزما، أو شغل الجيش نفسه في مشاريع اقتصادية وربحية، كما حدث بشكل متزايد منذ نهاية عصر السادات، وتوسّع بشكل كبير في عصر مبارك، حيث شجع مبارك المشير طنطاوي على التخلّص من قيادات الجيش الأكثر استقلالية من ناحية، واستخدام شركات الجيش لمكافأة الضباط الأكثر ولاءً من ناحية أخرى، بالإضافة إلى تعيين عدد لا بأس به منهم بعد التقاعد في مختلف مؤسسات الدولة والقطاع الخاص. وقد أثار إبعاد الجيش بهذا الشكل حساسيات بينه وبين النخب المسيطرة على بعض مقاليد السلطة، خصوصاً في النصف الأخير من عهد مبارك، وذلك على غرار عمر سليمان المسيطر على الاستخبارات العامة، والقوة المتزايدة للداخلية وأجهزة الأمن الداخلي المختلفة، والنخب الاقتصادية الملتفّة حول جمال مبارك. لذا مثلت ثورة يناير، كما يعتقد سبرنغبورغ، فرصة مثالية للجيش للعودة إلى الحكم وساعدته في ذلك أربعة أسباب رئيسية على الأقل:

أولاً: تراجع الاهتمام الدولي، وخصوصاً الأميركي، بمصر وبنشر الديمقراطية، فمنذ الفشل الأميركي في حرب العراق والولايات المتحدة عازمة على تخفيف أعبائها في الشرق الأوسط تدريجياً، لذا لم تبال بقمع مبارك المعارضة بعد 2005، كما لم تفعل إدارة أوباما شيئاً يُذكر لمساعدة مصر لتعزيز الحكم المدني بعد 2011، ولا للاعتراض على الانقلاب العسكري في 2013، وظلت أميركا تستثمر في علاقتها بالجيش المصري بالأساس خلال تلك الفترة.

ثانياً: تميّز النشطاء المصريين على مختلف توجهاتهم بدرجة عالية من المثالية والانقسام بعدما ورث هؤلاء عقوداً من التجريف السياسي. لذا لم تنتبه القوى المختلفة بدرجات إلى طبيعة الدولة العميقة والحكم العسكري الممتد لمصر، وتركوا معظم مؤسّسات الدولة العميقة بلا أيّ إصلاح يُذكر، وانشغلوا بصراعات حول الأيديولوجيا وطرق التغيير (الانتخابات أو الدستور) من دون الانتباه إلى الخطر المحدق بهم جميعاً.

ثالثاً: يعتقد روبرت سبرنغبورغ أنّ الشعب المصري من أكثر الشعوب اعتماداً على حكومته في العالم، فهي الموظف الأكبر لحوالي ربع القوى العاملة المصري (7 ملايين موظف)، كما توفر الحكومة الدعم لغالبية المصريين في صورة أغذية وموارد طاقة مخفضة الثمن، وتهمين على مؤسسات التعليم والثقافة والإعلام، ما جعل مؤسّسة كالجيش تتمتع بدعم غالبية الشعب المصري بشكل مستمر.

الخوف الأكبر من تعرّض مصر لهزات اقتصادية وسياسية مفاجئة بسبب أخطاء النظام، قد تؤدي إلى مزيد من تدهور الأوضاع

رابعاً: تمكّن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من الاستفادة من حالة الفراغ السابقة، بحكم قدومه من جهاز الاستخبارات العسكرية، ما ساعده في السيطرة على الجيش، ونجاح ثورة يناير في توجيه ضربة قوية إلى النخب المدنية التي تكونت خلال عهدي السادات ومبارك من دون أن تتفق على نخبة بديلة، وكذلك من خلال تشجيعه توسع الجيش اقتصادياً وسياسياً بشكل غير مسبوق.

وكانت نتيجة ما سبق عودة مصر إلى الحكم العسكري بشكل غير مسبوق في تاريخها منذ أواخر الستينيات، وبشكل أكثر قمعاً عما مضى من أسوأ سنوات قمع عبد الناصر. وهذا يعني أنّ ثورة يناير ساهمت، بغير قصد، في عودة الحكم العسكري بشكل غير مسبوق للبلاد، وقد يكون هذا خطأً غير مقصود أو ثمرة إيجابية، إذ ساهمت القشرة المدنية التي صنعها السادات ومبارك في إخفاء طبيعة النظام العسكرية وحقيقة الدولة العميقة، والتي بدت منذ يوليو/ تموز 2013 أكثر وضوحاً لكثيرين.

ويبقى السؤال بشأن ردة فعل الشعب المصري ومدى انتشار الوعي السابق بطبيعة الحكم العسكري للبلاد، وبكونه المسؤول عما وصلت إليه البلاد من تراجع على مختلف الأصعدة، ومدى استعداد المصريين لمواجهة الحكم العسكري وتغييره، وتحمل تكاليف ذلك. وتبدو الإجابة غير إيجابية، أو غير واضحة على أقل تقدير، في ظلّ تراجع مؤسّسات التعليم والثقافة المستمر وسيطرة النظام على مؤسسات الإعلام وتراجع استقلالية مؤسّسات المجتمع المدني والمؤسسات السياسية المختلفة، وتراجع الاهتمام الدولي بالديمقراطية كذلك. ويبقى الخوف الأكبر من تعرّض مصر لهزّات اقتصادية وسياسية مفاجئة بسبب أخطاء النظام، قد تؤدي إلى مزيد من تدهور الأوضاع، مع العجز المستمر في إيجاد حلول جادّة في ظل هيمنة الحكم العسكري على البلاد.