قصص ثقافية

قصص ثقافية

21 يوليو 2015
لوحة للفنان الفرنسي أندريه ديموناز André Deymonaz
+ الخط -
منذ ما ينوف عن عشر سنوات، استطاع أكاديميون فلسطينيون كسر الحاجز بين الأكاديميا وما هو خارجها، عبر البيان الذي وقّعوا عليه بعد مداولات ومناقشات، مطالبين نظراءهم بمقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية. جهود الأساتذة وأصحاب الاختصاص أو المثقفين بصورة أدقّ، أثمرت عام 2005 وتحديدًا في شهر يوليو/ تموز منه، حين التفتت مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني حول بيان الأكاديميين، وأطلقوا معًا نداءً عالميًا لمقاطعة لا الأكاديمية الإسرائيلية فحسب، بل إسرائيل، مقاطعةً أكاديمية وثقافية وفنية واقتصادية. عُرفت الحركة باسم "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل" (BDS). والمتابع اليوم لإنجازات الحركة وأثرها على "صورة" إسرائيل، لا يسعه إلا أن يتأمّل مليًا في قدرة الثقافة على التغيير والحشد عبر العمل الجدّي والدؤوب والعقلاني.
تمثّل هذه التجربة أرقى ما يمكن للعمل الثقافي القيام به. إذ ليس سرًّا أن الحركة انطلقت من العلم والمعرفة ومخاطبة العالم بمفردات العصر، وهذا موضع قوّتها الحقّة. إذ استعمل القائمون على الحركة مصطلح "التمييز العنصري" في أدبيات الحركة وبياناتها، وهو مصطلح يدرك الغربيون كنهه ومعناه من جهة، وهو من جهة أخرى يضع الفلسطينيين في مكانهم تمامًا: الضحية. وليس هذا بالإنجاز البسيط، إذ لطالما احتكرت إسرائيل صورة الضحية، مستندة في ذلك إلى مصطلحين يرنّان بقوّة في وجدان الغرب: "الهولوكوست" و"اللا سامية". وإذ تقدّم إسرائيل نفسها باعتبارها "واحة الديمقراطية" في صحراء العرب المريعة، فإن الحركة تبثّ صور حروب إسرائيل على الفلسطينيين وصور دمار بيوتهم وبناهم التحتية وصور الإسرائيليين أنفسهم وهم يتسلون حرفيًا بالتفرج على جيشهم وهو يقصف الفلسطينيين.
الحركة تتسع وتكسب نقاطًا ومريدين من مختلف الشرائح، لكنّها في الإجمال تستند فعلًا إلى قوّة الثقافة والمعرفة وتكسب مريدين من هذه الشريحة، ما يفسّر تصويت طلاب كلية الدراسات الشرقية والإفريقية SOAS التابعة لجامعة لندن مؤخرًا لصالح الحركة فضلًا عن علماء وفنانين ومثقفين عالميين كثر.
يعي القائمون على الحركة مسارب تحركاتها وما يمكن أن تصل إليه، ولا تدانيهم الأوهام في أنها تستطيع وحدها إنهاء الاحتلال مثلًا. وتشي هذه النظرة الواقعية ببصيرة مهمّة، وتشفّ عن الأمر الجوهري: الجدّية والاستمرار.
وإذ وجدت إسرائيل أن "صورتها" اهتزّت نتيجة لحركة المقاطعة المتنامية، عمدت بدورها إلى إنشاء حركة مضادّة تحت عنوان "Brand Israel". عنوانٌ ينحدر بدوره من مفردات هذا العصر، ويمكن ترجمته بـ "توسيم إسرائيل". ويهدف توسيم مماثل إلى بثّ "صورة" لإسرائيل مختلفة (أو مختلقة وهو التعبير الأدق) ومضادّة لـ "صورتها" الناجمة عن حملة المقاطعة. وتحشد إسرائيل من أجل ذلك أجهزتها ومؤسساتها كلّها. وهنا القصّة كلّها: أن تحشد دولة ما كلّ أجهزتها ومؤسساتها من أجل الردّ على عمل ثقافي، يعني أن الثقافة ليست أمرًا نافلًا بل قوّة صلبة عند كلّ مرّة تستند إلى الجدّية والإصرار والاستمرار، وهي قوّة مبدّدة ونافلة عند كلّ مرّة ترضخ للسلطة. وللمرء أن يتذكّر ها هنا، حركة Occupy Wall Street، التي ظهرت في سبتمبر/ أيلول عام 2011، ولا يكاد يسمع عنها شيء تقريبًا اليوم، خلا تلك الأخبار التي تقول بكسب بعض أفرادها دعاوى قضائية ضدّ الحكومة الأميركية التي اعتقلتهم واضطهدتهم إبّان احتجاجاتهم المحقّة ضدّ توحشّ رأسمالية العولمة. إلا أنه كسبٌ يترجم فورًا بلغة الأرقام، فتذكر الأخبار أن أحدهم حصل على ما مبلغ يقارب المائة ألف دولار وكسب القضية. القصّة كلّها في هذه المائة ألف دولار، التي ليست إلا أداة السلطة لتبديد قوّة الثقافة. تفتّت حركة Occupy Wall Street سريعًا، رغمّ كل القوّة والامتداد والزخم الذي بدأت بهم.
وقليلة هي المناسبات التي يستطيع المرء فيها الإشارة بصورة إيجابية إلى رجل سلطة يعمل في الحقل الثقافي، هذه هي حال ضيف ملحق الثقافة جاك لانغ، وزير الثقافة السابق والرئيس الحالي لمعهد العالم العربي. يتميّز لانغ بقدرته على قراءة مفردات عصره، إذ هو يشجّع الشباب ويهتمّ بالفنون "الجديدة" التي يبتدعونها، وينظر بطريقة عقلانية إلى الثقافة البازغة من ضواحي باريس، من دون أن ينسى أن الاستجابة لـ "حدث" أو "أمر" جلل ما، لا تكون إلا بحشد أعضاء الأكاديميا والمثقفين. والشيء بالشيء يُذكر كما يقال، إذ منذ أيام قليلة استجاب وزير الثقافة المصري لـ "حدث" جلل، فعقد مؤتمرًا تحت عنوان "الثقافة في مواجهة الإرهاب"، حشد له مثقفين وفنانين وشيوخاً. إلا أنه ولأمر ما، طغت الفرق الفنّية، فأزيدَ من ثلاثين منها شاركت بالرقص والأغاني والموسيقى. أمرٌ غريبٌ فعلًا. لكن لِمَ الغرابة؟ ونحن نستطيع عدّ أغاني ورقصات كثيرة انتشرت منذ الخامس والعشرين من يناير كـ "استجابة" وردّ عن أمرٍ جلل، بل ولعلنا نستطيع التأريخ لما يجري في مصر من وقتها بالأغاني لا العمل.

المساهمون