احتضن الدوحة: العادات والثقافة القطرية للجميع

احتضن الدوحة: العادات والثقافة القطرية للجميع

12 يونيو 2022
من فعاليات "اختضن الدوحة" (من المركز)
+ الخط -

صوت دلّة القهوة ترتطم بالفناجين. أصوات الضيوف تتداخل أثناء تفاعلهم مع المعلومات التي تُلقى على مسامعهم عن ثقافة إعداد القهوة وعادات المجلس القطري. همسات الفتيات المنغمسات في تعلّم تقنية السدو في صناعة السجاد. أعناق الكبار مشرئبة ينتظرون دورهم لتذوق القهوة العربية المُعدَّة على أصولها. قهقهات أطفالٍ صغار لم يبلغوا سن التعلم بعد يركضون في أرجاء المكان. عبق القهوة والبخور، رائحة الأكل والحلويات القطرية، ضيوف من جميع أصقاع الأرض اختاروا المجيء ذات صباح يوم سبت إلى سوق الوكرة، رغم الحرارة التي بدأت تشتدّ منذ أسابيع قليلة في قطر.
كانت هذه أجواء الفعاليات التي نظّمها مركز "احتضن الدوحة" الثقافي في منطقة الوكرة، في فضاء يُعدّ منزلاً مُشيداً على الطراز القطري التقليدي.

انطلق المركز في تنظيم الفعاليات بشكل رسمي منذ نحو ستة أشهر، على الرغم من أن فكرته ليست حديثة العهد، كما أكدت مؤسسته السيدة أمل الشمّري، التي تشغل في الآن ذاته منصب مدير التخطيط الاستراتيجي في شركة قطر للأسمدة البتروكيميائية.
تقول أمل: "تعود انطلاقة (احتضن الدوحة) إلى عام 2014 حين قررتُ تأسيس شركة ناشئة تحت مظلة (حاضنة قطر للأعمال) يتمثل هدفها في الحفاظ على التراث القطري والتعريف به". المثير للاهتمام أن "احتضن الدوحة" كانت الشركة الأولى من نوعها في قطر وما زالت، حتى إنه عند تسجيلها عند وزارة التجارة لم تكن هناك أي فئة يمكن إدراج المشروع تحتها، فتمّ إنشاء فئة جديدة سُميت "استشارات ثقافية".
تشير أمل إلى أن فكرة "احتضن الدوحة" نبعت من تجربتها الشخصية، لا سيما حين بدأت العمل وبات هناك تعامل يوميّ مع موظفين أجانب. "كنت أفترض ضمنيّاً أنهم على معرفة بعاداتنا وتقاليدنا، من ثم اكتشفت أن هناك سوء فهم يحيط بثقافتنا المحلية مثل إلقاء التحية واحترام الخصوصية، وحتى ارتداء العباية. نتجت عن ذلك في بعض الأحيان مواقف محرجة قد تصل إلى صَدَمات ثقافية. عند هذه النقطة، قررت التحدث إليهم وشرح الأمور التي يسيئون فهمها".
مع مرور الزمن، اتضح لأمل أن هناك معلومات تغيب عنها، فكانت تتوجه بالسؤال لأفراد عائلتها، مثل والدها، ووالدتها وجدّتها. "لم يكن هناك مكان واحد تجدين فيه كل المعلومات، كان يجب البحث هنا وهناك. لم يكن جمع المعلومات سهلاً بالنسبة لي، فما بالك بالأجانب الذين يأتون ويبحثون عمّن يشرح لهم تفاصيل الحياة في قطر، وهو ما دفعني إلى إطلاق هذا المشروع"، وفقاً لما صرحت به.

احتضن الدوحة (من المركز)

كانت نيكي بينز، مديرة ومؤسسة نادي "فتيات العلوم الرائعات"، وهن اللاتي شاركن في نشاط صناعة السجاد بتقنية السدو يوم السبت، واحدة من هؤلاء الأجانب الذين وجدوا أنفسهم في مواقف محرجة بسبب عدم إلمامها بالثقافة القطرية. "أعيش هنا منذ أربع سنوات وكنت أجهل العديد من الأمور. ذات مرة كنت أعقد صفقة تجارية مع رجل أعمال قطري وبعد أن أتممنا الأمور، توجهت إليه لمصافحته وشعرت بالحرج لأنه لم يصافحني على النحو الذي تعوّدت عليه في الولايات المتحدة. في مرات أخرى، كان يُطلب مني المجيء رفقة زوجي ولم أكن أفهم السبب وراء ذلك، ولو كنت أعلم بوجود (احتضن الدوحة) من قبل لكنت اتصلت بهم وسألتهم عما يجب أن أفعله".
تتمثل إحدى نقاط قوة هذا المشروع في كفاءة القائمين عليه والشغف الذي يحملونه تجاهه. السيدة شيماء شريف، المديرة التنفيذية للمركز، كانت شاهدةً على ولادة "احتضن الدوحة" إلى أن تبلورت الفكرة وتمخضت عن مركز قائم بذاته. درست شيماء علم الآثار في العالم الإسلامي والعربي وتخصصت في علم الآثار القطري، وعملت في كلية لندن الجامعية التابعة لمؤسسة قطر حيث ساعدت على إحياء البحوث الأثرية وجعلها سهلة الوصول للعامة.
تفيد شيماء: "أنا مهتمة بمعرفة ما يشعر به سكان قطر تجاه تراثهم، حيث إنهم يشعرون بارتباط لما يعود إلى مطلع القرن العشرين لكن ليس تجاه ما سبق ذلك، إذ لم تُتح لهم الفرصة للتفاعل معه. هنا في مركزنا، نحن نجد السبل للحفاظ على التراث، بالتالي، ما بدأ بفكرة جَعْل الأجانب يفهمون الثقافة القطرية على نحو أفضل تحول إلى شيء أكبر، وهو ما لم ينتج عن استراتيجية قد وُضعت لتحقيقه بقدر ما كان حدوثه طبيعياً وتلقائياً".

ما حدث بطريقة طبيعية كانت بدايته مع تقاطع دروب أمل وشيماء من خلال برنامج تلفزيوني. "حينها علمنا أننا يجب أن نعمل معاً، حيث أمتلك المعرفة الأكاديمية وأمل خبيرة في الثقافة. الأمر أشبه بقطعتيْ أحجية تُكملان بعضهما. انطلقنا في العمل معاً، لكن لاعتبارات مهنية، حيث لكل منا وظيفة بدوام كامل، كان يجب أن نضع لبنة للمكان الذي سيحتضن مشروعنا ونجعل منه مركزاً قائماً بذاته تُغطّي مداخيله كل المصاريف ولا يتوقف العمل فيه إذا ما غابت إحدانا، لذلك كوّنا فريقاً متناغماً"، تضيف شيماء.
بالعودة إلى المسار الذي اتخذه مشروع "احتضن الدوحة"، فقد انتقل من "حاضنة قطر للأعمال" إلى قلب سوق واقف بالدوحة حيث كانت تُنظم جولات وجلسات ثقافية. "لكن المساحة كانت صغيرة يما يتّسع لنحو عشرين شخصاً، كما كانت التكلفة مرتفعة في غياب الدعم الكافي"، تضيف أمل. استمرت الأمور على هذا الحال حتى عام 2020. لكن مع انتشار وباء كورونا واقتراب موعد بطولة كأس العالم، قرّر القائمون على المشروع الاستثمار في منزل يقع في سوق الوكرة مع تلقّي دعم من إدارة السوق وافتتاح الفضاء رسمياً في عام 2021 بعد مرور عام كامل على عمليات الترميم والتجديد.

تقول شيماء: "ما زلنا نقوم بجولات داخل سوق واقف تضمّ تذوق الأطعمة والتسوق، ولدينا فعاليات ثقافية في هذا الفضاء، يعتمد عددها على عدد الأشخاص الذين يسجلون فيها. كما تتصل بنا السفارات والمدارس أو الجامعات، ليطلبوا منا تنظيم الفعاليات. تقوم التجربة على المشاركة والتفاعل، مع الاطلاع مسبقاً على البرامج التعليمية حتى يكون ما نقدمه في اتساق مع ما يدرسه الطلاب". كذلك تقدم شيماء استشارات ثقافية حيث يُطلب منها العمل على محتوى ما، بالإضافة إلى البحوث المتعلقة بالثقافة المحلية.
تُحدثنا المدير التنفيذي عن أبرز تحدٍّ يواجهه المركز وهو جمع المشاركين في الفعاليات، يعود بالأساس إلى كون هذا المشروع هو الوحيد من نوعه في قطر ولم يسبق لأحد إطلاق مشروع مماثل. "حين تطلبين من أحد دفع رسوم المشاركة في فعالية، فهو يرغب في معرفة الخدمات التي يدفع لقاءها، لأنه لم يخض تجارب مشابهة سابقاً كي يقوم بمقارنة. بالتالي، نحن نعمل على تغيير تفكير الناس إزاء دفع المال مقابل خوض تجرية ثقافية ويكون الأمر يستحق العناء".
على الرغم مما تبذله حكومة قطر من جهود لتعزيز الجانب الثقافي والسعي للحفاظ على التراث والعادات المرتبطة بالمجتمع القطري، يظل من المهم أن يدلي الأفراد بدلوهم والمساهمة من جهتهم في هذه الجهود، وهو ما يجسدّه القائمون على "احتضن الدوحة" من خلال العمل على نشر الثقافة والتراث القطري والتعريف به، لا سيما للأجانب والمقيمين.

تقول شيماء: "من المؤكد أن وزارة الثقافة تقوم بعمل رائع، لكن ليس هناك ما يتم تقديمه للأجانب، وبشكل أدقّ، ليس هناك مركز للتراث الثقافي غير المادي، وهو ما نقدّمه هنا. مركزنا ليس عبارة عن متحف. نحن لا نعرض مقتنيات فنية أو أثرية، لكننا نعرض تراثاً غير مادي، وهو ما يجب العمل بجد للحفاظ عليه مثل عادات إعداد القهوة العربية أو الصيد بالصقور، وتقنية السدو لصناعة السجاد، وصناعة البخور، وصناعة الجلد، بالإضافة إلى فعاليات رمضان".
كما تبرز أهمية إيجاد ما يجمع بين الثقافات، إذ قبل أن تزور المركز مجموعة من الأجانب، ينكبّ الفريق على البحث عن نقاط التقاء بين ثقافة البلد الذي تأتي منه المجموعة والثقافة القطرية لجعل التجربة أكثر متعة وإفادة للمشاركين. من المثير للاهتمام أيضاً أنه على الرغم من أن الشريحة المستهدفة من نشاطات المركز تتمثل أساساً في الأجانب، من العرب وغير العرب، إلا أن هناك نشاطات تشهد مشاركة قطريين وقطريات يحاولون إعادة الارتباط مع نواحٍ عدة من ثقافتهم، وفي المقابل، يقدّمون معلومات قد تغيب عن فريق المركز، ما يشكل تبادلاً للمعرفة، وهو ما اعتبرته شيماء جديراً بالجهود التي يبذلونها.
على الرغم من أن الفضاء الذي لطالما حلمت أمل بتأسيسه أصبح حقيقة، إلا أنها تشعر أنها ما تزال في بداية الطريق. "أريد أن يصبح هذا المكان مرجعاً لكل زائر، ومن يدخله يشعر بأنه في مساحة آمنة لطرح الأسئلة التي تشغل باله ويشارك في أنشطة تُقربّه من أهل البلد. نحن نعمل على محاربة الأحكام المسبقة والأفكار المتداولة والتي تخلو من الصحة من خلال دعوة السياح والمقيمين إلى خوض هذه التجربة الفريدة من نوعها مع (احتضن الدوحة). اليوم، تشهد قطر موجة تطور سريعة وجب علينا مواكبتها، لذلك يجب أن نُلمّ بتطلّعات السياح والوافدين الجدد على البلاد، ونخلق توازناً بين الاستمرار في التطوير والمحافظة على ثقافتنا".

في هذا الصدد، تقول نيكي: "لم أكن أعلم بوجود هذا المكان وأعتقد أن التجربة رائعة ونحتاجها بشدّة، باعتبار أننا لسنا على اطلاع بالثقافة القطرية خاصة بالنسبة لنا نحن الأجانب. نحن لا نعلم أيّ الأسئلة تُعدّ مناسبة لطرحها وعلى من يجب أن نطرحها. يمثل هذا المكان بداية جيدة لاستقاء المعلومات. أعتقد أنك متى ما أصبحت مُلمّة بالطريقة التي تجري بها الأمور هنا ستتوقّفين عن الشعور بالقلق والتوتر".
عن الخطوات القادمة للمركز، تحدثت شيماء عن انتداب أعضاء جدد ومميّزين، متى ما أصبحت هناك مداخيل قارة وتم عقد شراكات مع مؤسسات ومدارس. "بالإضافة إلى ما نقدمه الآن، نحن نطمح لتكون هناك أنشطة مرتبطة بالجيولوجيا لاكتشاف التاريخ الطبيعي للبلاد، وأخرى مرتبطة بعلم الآثار والعمارة، والغوص لصيد اللؤلؤ. نطمح أيضاً إلى أن يتواصل معنا معدّو برامج تلفزيونية مثلاً ليطلبوا منا التحقق من دقّة وصحة المعلومات الثقافية. كما سيكون من الرائع إن تمكنّا من توسيع المشروع وافتتاح فروع أخرى في الخور والدوحة وغيرهما".

المساهمون