زعتر يلمع في الشمس

زعتر يلمع في الشمس

18 يونيو 2022
"باب العمود" (باب دمشق) في القدس المحتلة (Getty)
+ الخط -

قال لنا قائد الطائرة محذّراً: أغلقوا النوافذ فالشمس مخبّأة في ساعةٍ سَتُباغت.
ثمّ كان هدوءٌ لا يعتريه كلام. فقط هدير المحرّك كالشقّ في سور: يفتح في السكون مكاناً لنقلع. حلّقنا دون أن نعرف كيف وما سيحلّ بنا: وكنتُ منذ ساعات أُحضّر نفسي لمواجهة مع الأرض. ذهبت إلى عمان حتى أحجَّ الى الديار، على طائرة مرّةً أُولى وثانيةً وثالثةً، دائمًا نحو الديار: أُردّد كما تعوّدت اسمًا، علّه يتذكّرني: فلسطين فلسطين فلسطين.

هناك في جانب من الليل بدت لي الأرض بحرًا داكنًا. كان المحرّك يخفق كقلب يتعطّل ومن خلفي سمعتُ مواءً فتساءلت: هل حطّت بنا هذه المركبة في الأرض التي تركناها، ربما لكثرة ما كان من القطط في الشوارع، وفي الأزقّة، وحول الولائم. وكانَت أضواء المواضع حيث الجريمة تلوح لعيني كالجزيرة في الفراغ. وماذا أقول عن الغيم حين اقتربنا من الشاطئ... وسطعت
جراحٌ وانكشف لي ما اقترفه الضوءُ من دمٍّ ودمار؟

كُّل هذا لنبلوهم أيّهم أحسنُ مرقدًا. هنا تلقى المأساة صفعة حائكها وأشباحُنا أجسادٌ معلَّقة في السماء. ننتظر الجرح الذي سيشقّ في الشمس ملاذًا، وفي الظلمات، حيث يومًا سنرجع حتى نكون أخيرًا.
يا ترى هل سيوقظنا كل هذا الضياء أم رُبّ ضوء هو الليل الذي سوف يدفن أحلامنا في التراب.

قُل أيّها الساكن شيئًا
فالأماني هنا وقعٌ خفيّ في الضباب.

والآن أقلعنا من جديد بعد أن حطّت بنا متاعبنا. كانت الشمس ساطعة كوباء يَفتك
بأفكارنا أكثر من أجسادنا: وأجسادنا تموت في قبضة زمنٍ يتنكّر لنا يوماً فيوماً: هل سيكون المستقبل كذلك حائرًا كما
هي الأرض الآن؟

إذن، عدت بعدما ماتت الأم، لغة في قبرها ترقد صابرة. أَمَوتٌ هذا أم السكوت الذي عوّدَتْ نفسها عليه؟

وعندما يحلّق بي هذا الطائر العرضي سأنسى ما اكتسبت من اللغة الأم. وكم تحالفني
المآسي لأنهل من صمتها شعراً، أُعتّقه في قارورة الوقت. في فلسطين التي ما تزال على اسمها، تُمنّي أحبتها بشيء غير هذا الجدار أو ذاك وتحلم
للاسم مكاناً.

لو أنّ أشباحا تبنّت وجعَنا هذا لكان لهذه الأرض أن تطمَئن ولكنّ ما فوق جسدها
المعرّى لا يُطَمْئن، وكلّما زاد المكان اتّساعًا ضاق بالأمن.
ألم يحن الوقت حتى نحرّف ما قاله الأنبياء؟ ألم يقل لك الملك الضلّيل أن تقف حتى تترك للصمت مساحات دون معتاد الكلام؟

أعود كما تعوّدت، حاملاً من المكان قصاصات أهديها لأحبابي وأعدائي، سواسية. كذا تعوّدت ولمّا خطوتُ على جانب من دمار الأرض وبدا لي ذاك الجدار الذي يعزل الأرض عن خطى أهلها، بدا لي خرافياً كما أرادت له الآلهة أن يكون.
صغرتُ كثيراً أمامه وتذكّرتُ أُمّي التي قبرها الآن ظلّه:
في قلب المخيم - حيث تلتحف الإسمنت. هنا الآن مرقدها.
وفي شمس حزيران، تحتضن الأرض أجساد موتاها، عندما أولادها وبناتها ينامون أخيرًا.

هنا كنت قبل الجريمة طفلًا اعتاد على الحياة كما هي، حرًّا من شَرَك الحقائق. وقتها لم يكن هذا الجدار جدارًا، كان خيالًا وخوفًا. 

وكانت نوال، وما زالت نوالًا، تجرّ حقيبتها في يد وفي الثانية ابنها الأصغر.
حين كانت الرحلة إلى القدس بضع دقائق، كنّا معًا نخرج من حافلة حمراء بعض الشيء، نمشي قليلًا نحو مخبز الكعك الأقدم بين مخابز القدس. وكانت لا تأمن
إلّا لما أعدّته من الزعتر، فتمنعني عن زعتر البائع الممزوج بكثير من الملح.

نمشي في ضيق الشوارع القديمة. أخاف الضياع فأمسك بيدها في زحمة
البشر. ألوان وأشياء بدت لي كالسّحر: لو أنّي أحفل بها كلّها. لكنّنا كنّا نمرّ عليها
بسرعة خوفها - خوف المدينة وخوف الأمومة. كانت تحبّ مشرفًا يطلّ على قبّة الصخرة، فتسرع للوصول إليه كما لو أنه الجنّة.

وعندما نقترب من خضرة الباب قبل الوصول الى الباحات كان يوقفنا
أناس يذوبون في الحرّ من كثرة ما أثقلوا بِه أجسادهم، مدجَّجون
برعبهم وبأسهم. وكانوا يردّدون الأسئلة ذاتها. يسائلوننا عن هوية. بدوا للطفل فيّ
أُناسًا تائهين. وعند السؤال تصير حقيبة أمّي كنزًا، تبحث فيها بين المناديل والعلكة
والفرائط...عن هويتها، تُشهرها في وجه مجنّد أو مجنّدة، مثقلة
بالحديد. حديد سيقذف الموت يومًا.

لم أكن أعرف حينها شيئًا. ودون كلام، يشيرون إليها بالدخول أو الوقوف أو الرجوع:

أنا وهي، نسرع الى زاوية مظلّلة، نسرع حتى لا يبردَ الكعك. نجلس لا أعرف كيف: ثم تأخذ من الكيس دائرة من الخبز بالسمسم، تأخذ جانبًا
من ذلك الصفر العربي المطاول وتشقّ فيه جرحًا ثم تداويه بزعترها دون الكثير
من الملح، كما هو المعتاد.

آخذه منها لأركض طفلًا في باحات المسجد الحجرية البيضاء.

وعندما أراها تنشغل عنّي بالصلاة، أُخرج من جيبي قصاصة الجريدة التي كنت أخذتها بخفّة من كيس، كعك، تلك التي يضعها البائع هكذا دونما ثمن. وعندما أراها في السجود، آخذ ممّا في القصاصة من زعتر يلمع في الشمس لكثرة ملحه.

أرشّ على ما رشّت، كثيرًا كثيرًا. فأنعم حينها بلحظة في الجنّة مثلها: خبز وسمسم وملح يذوب في فمي - وبين أسنان ما تزال في طراوتها تبلى... أقول لنفسي أخيرًا كما تعوّدتُ في الغربة أن أحاكيها: سأعشق ذاك المكان وكلَّ ما سيأخذني إليه.



بطاقة

شاعر وأكاديمي فلسطيني من مواليد بيت لحم، مقيم في فيلادلفيا بالولايات المتّحدة الأميركية منذ نحو عقدين، حيث يدرّس الكتابة الإبداعية في "جامعة بنسلفانيا". يكتب الشعر باللغة الإنكليزية، التي صدرت له فيها مجموعة شعرية عام 2019، بعنوان "إنكليزية مُرّة"، عن "منشورات جامعة شيكاغو". حاصل على شهادة الدكتوراه في الأدب العربي من "جامعة إنديانا"، وقبلها على درجة الماجستير في الشعر من "هنتر كوليج".

المساهمون