بيوت تيسير البطنيجي: الذاكرة والمكان والإبادة الجماعية

بيوت تيسير البطنيجي: الذاكرة والمكان والإبادة الجماعية

22 ديسمبر 2023
عمل بعنوان "GH0809" لتيسير البطنيجي
+ الخط -

ضمن مخطّط الإبادة الصهيونية المُستمرّة في غزّة، لا نطالعُ أسماء الشهداء بصيغة المُفرد، فالعائلات تُمحى من السجلّات وتُباد بالكامل. في السابع عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، كنّا مع أحد فصول هذه الإبادة، حيث ألقت طائرات الاحتلال الإسرائيلي أربع قنابل على منزلٍ في حيّ الشجاعية، كان قد احتمى فيه أكثر من مئة شخص من آل البطنيجي وجيران لهم، مُرتكبةً مجزرة دموية تُضاف إلى سجلّ "إسرائيل" الوحشي، حيث لم ينجُ من هؤلاء المدنيّين العُزّل سوى أقلّ من نصفهم تقريباً.

"هذه الجريمة التي تعجز الكلمات عن وصفها، وكلّ الجرائم التي تُرتكب كلّ يوم، قبل وبعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، بحقّ شعبنا الأعزل، لم يكُن لها أن تحدُث لولا تواطُؤ حكومات الغرب الاستعماري، وفي مقدّمتها الولايات المتّحدة الأميركية والاتّحاد الأوروبي"، بعضٌ من الكلمات التي كتبها عبر حسابه على فيسبوك التشكيلي الفلسطيني المُقيم في باريس، تيسير البطنيجي (1966)، واصفاً إبادة أفراد من عائلته، بمن فيهم شقيقته حنان، وزوجها وأولادهما وبناتهما وأحفادهما.

للشهداء حضورٌ مركزي في تجربته الفنّية منذ انتفاضة 1987

عبر هذا النعي الأليم، يُمكن لنا أن ننفذ إلى تجربة البطنيجي الفنّية، التي لم تكن مُنفصلة يوماً عن مأساة الشعب الفلسطيني، ولا  عن نضاله ومقاومته اليوم. حيث أعلن الفنّان، في الرابع عشر من كانون الأول/ ديسمبر الجاري، إعادة تقديم مطبوعة بعنوان "تشويش" (تصدر عن "Loose Joints")، وهي مجموعة من الصُّور التُقطت من خلال "واتساب" حين كان يتقطّع الاتصال بسبب ضعف التغطية، بين عامَي 2015 و2017، بينما كان يتحدَّث إلى والدته وعائلته في غزة، وسيبدأ توزيع المطبوعة ابتداءً من كانون الثاني/ يناير المُقبل، وتُخصّص نسبة 100 بالمئة من العائدات لمنظّمة "المساعدة الطبيّة للفلسطينيّين" (Medical Aid for Palestinians) المَعنيّة بالعمل المُباشر على الأرض.

الصورة
تشويش - القسم الثقافي
من سلسلة "تشويش"

قبل المجزرة بأيّام، اختِير كتاب البطنيجي "بدون عنوان (صُور الشهداء)"، ضمن قائمة "جائزة أفضل خمسين كتاباً/ غلافاً" لعام 2022، التي أعلنها "المعهد الأميركي لفنون الغرافيك" (AIGA). ويضمُّ العمل سلسلةً من الاشتغالات التي نفّذها الفنّان، تخليداً لذكرى الشهداء الفلسطينيّين الذين قُتلوا على يد الاحتلال الإسرائيلي خلال الانتفاضة الثانية بين عامَي 2000 و2001. وقد صدر الكتاب ضمن معرض أوسع بعنوان "دوام الحال من المُحال"، أُقيم العام الماضي في "متحف: المتحف العربي للفنّ الحديث" بالدوحة، وضمّ أعمالاً فنّية نفّذها البطنيجي بين 1997 و2022.

ومن بين الأعمال التي تُطالعنا فيه، عملٌ بعنوان "جُدران غزّة" (2001)، يستخدم فيه صوراً فوتوغرافية على ورق أسود وأزرق، وهي جزء من صور بقايا ملصقات الشهداء، بالإضافة إلى كتابات تُمجّد البطولات كانت تُثبّت على جدران المدينة، وهي الفكرة التي اشتغل عليها لاحقاً، حيث جمع صُور عشرات الشهداء من الصُّحف وأرشيف منظّمات حقوق الإنسان، لينسخها إلكترونياً بالأبيض والأسود.

الصورة
صور الشهداء - القسم الثقافي
من سلسلة "صور الشهداء"، طباعة شاشة على قماش

نبقى في حضرة الشهداء، ونستذكر سلسلة أُخرى من الصُّور، تحمل عنوان "إلى أخي" (2012)، كان البطنيجي قد ضمّنها في معرضه الباريسي "ما أمكن انتزاعه من الفراغ الذي يتوغّل" (2021)، وفيها يتوجّه الفنان إلى أخيه ميسرة، الذي استُشهد على يد قنّاص من جيش الاحتلال، بداية انتفاضة عام 1987، في الثامن عشر من كانون الأول/ ديسمبر على وجه التحديد.

استنهاض فنّي للبيوت بعد دمارها في العدوانات المتكرّرة

بهذا نرى أن عوالم البطنيجي تتأسّس، في أغلبها، على ثيمة الذاكرة، حيث الشهداء مركزيّون فيها، لكنّ فعل التذكّر في ذاته يبقى ضبابياً ناقصاً ما لم يجد حاضنة صلبة يتجسّد من خلالها، وهُنا يبرز "البيت" في أعماله بوصفه مفهوماً واسعاً، خصوصاً بالنسبة إلى فنّان مثله يعيش في المنفى منذ عام 1995. وأشدّ تمثيل لـ"البيت" في أعماله، كان من خلال معرضه "من غزة إلى أميركا: بيتٌ بعيد عن البيت"، وأُقيم عام 2018 ضمن "لقاءات آرل" في فرنسا، حيث ضمّ أكثر من مئة عمل فنّي، تتوزّع بين المناظر طبيعية، والمشاهد من الحياة اليومية والبورتريهات.

لكنْ، هل البيوت في غزّة قادرة، حقّاً، على احتضان الذكريات إلى الأبد، وماذا يبقى منها وهي تتشظّى تحت وقْعِ الرصاص الصهيوني المصبوب؟ هذا ما يُجيب عنه عملٌ بعنوان "GH0809"، وفيه تكثيفٌ لتناقض عميق. فظاهرُ العمل يُوحي أننا أمام إعلان لبيوت وشقق سكنيّة معروضة للبيع، ولكن التمعُّن يكشف أنه مكوّن من صُور دقيقة مأخوذة لبيوت دمّرها الاحتلال الصهيوني في حرب عام 2008، وهكذا تتشكّل أمامنا البيوت الجميلة، التي تكون في جوهرها أنقاضاً لبيوت مُحطّمة، وذكريات مدفونة من تحتها. هذا العمل الذي ولّفه البطنيجي كان قد التقط صورَه مُصوِّر فوتوغرافي في غزة، بعد أن منع الاحتلال الفنّان من الدخول إلى مدينته.

الصورة
تيسير البطنيجي
صورة لتيسير البطنيجي في أحد معارضه

عند هذا الحدّ نعود إلى واقع المجزرة الراهن، ومُخاطبة الفنّان العالَم بعد أن قصف الاحتلال بيته وقتل عائلتَه، نعود بعد أن استقرأنا التجربة والذاكرة، لنختم بالكلمات التي كتبها هو نفسه: "لم يكتف (الاحتلال) بإبادة أختي وعائلتها، وإنما قصف بيت الأهل في الشجاعيّة قبل أيام. البيت الذي وُلدتُ فيه وكبرت، وكان يحتمي فيه ما يزيد على مئة شخص... دُمِّر بيت أمي بالكامل، وجزءٌ كبير من بيت أخي، واستشهد 22 من أبناء وبنات عمومتي وأطفالهم ونسائهم... وعلى نطاق أقلّ فداحة بكثير من فقد الأهل والأحبّة، أشير إلى أنه كان في هذا البيت جزءٌ كبير من أعمالي التي أنتجتُها عندما كنتُ طالباً في "كلية الفنون الجميلة" بنابلس، وفي بداية مساري الفنّي، على مدار ما يقارب العشر سنوات، إضافة إلى كتُب ووثائق، وغيره... كلّه تحوّل إلى رماد".

ويختم قائلاً: "الرجاء، لا تبكوا على مصيرنا ولا تتمنّوا لي الصبر والقوّة. فأنا صابر ومتماسك. ولكن انقلوا الحقيقة، وافعلوا ما استطعتم لإنقاذ غزّة، أو ما تبقّى منها، وادعموا صمود الناس هناك وكفاحهم من أجل الحرية".

المساهمون