الوطنية كذبة المستبد الكبرى

الوطنية كذبة المستبد الكبرى

06 يوليو 2019
+ الخط -
ما كان لإسرائيل أن تنتقل هذه النقلة النوعية، والعلنية في آن، من "الدويلة" و"الكيان"، بحسب الحكام العرب، إلى الدولة الإقليمية الفاعلة، كما برزت في الاجتماع الثلاثي أخيرا في القدس المحتلة بشأن سورية، وضم إضافة إليها الدولتين العظميين، أميركا وروسيا، اللتين تفصِّلان للعالم من الألبسة ما تريانه مناسباً، والمناسب طبعاً ما تتفقان عليه ويخدم مصالحهما.. أقول ما كان لإسرائيل ذلك التحوّل لولا أنَّ الأنظمة العربية كرَّست، منذ نيلها استقلالها، وبتفاوتٍ زمني، استبداد حاكم خاص بها، يوقف الزمان والمكان والتخلف والفساد، حيث كرسيه الذي يعلن من خلاله أنه القائد التاريخي الفذ، لا للبلد الذي يجثم على صدر شعبه، بل للأمة كلها، فبمثله لم ولن يأتي الدهر، ولأنه هكذا تراه يصارع نسخته الأخرى المزيّفة المتجسّدة في الحاكم العربي الآخر الذي يراه ندّاً له، ولا يريد له المشاركة في نيل شرف إغراق إسرائيل بالبحر.. وهكذا دارت معارك وحروب على الأرض العربية في اليمن ولبنان والعراق والكويت والأردن واليمن ثانية، وضد الفدائي الفلسطيني أينما وجد.. ولعلنا نجد في حافظ الأسد المصارع النموذج لكل هؤلاء، إذ هو ملكيٌّ أكثر من الملك تجاه القضية الفلسطينية، ومعيار الوطنية الدقيق عنده العداء لإسرائيل، فكيف كانت ممارسته في الواقع العملي، إن على صعيد تمتين الوضع الداخلي بتقوية بنيانيه السياسي والاقتصادي، وقد تركه للمقربين يعيثون فيه قمعاً وفساداً وتخلفاً، وإن على صعيد الجبهات العربية التي يمكن أن تصبّ في اتجاه صراعه، فهل كانت كذلك فعلاً؟
الواقع لا يقول بذلك مطلقاً، بدءاً من العلاقة مع منظمة التحرير الفلسطينية، وانتهاء برفيق دربه القومي والحزبي صدام حسين، مروراً بالقوى الوطنية اللبنانية.. ولعل الدولة الوحيدة التي كانت علاقته معها سمناً على عسل هي العربية السعودية التي لم تُنْعم عليه، وعلى أخيه سيئ الصيت الآخر، بالمساعدات حتى موته فحسب، بل ساهمت في إطلاق يده في لبنان ليفعل الأفاعيل في المقاتلين الفلسطينيين أولاً، وفي القوى الوطنية اللبنانية ثانياً، ولينشر الكراهية أكثر مما هي عليه بين قواها الطائفية والسياسية، وليخلِّف أحقاداً تجاه الشعب السوري، يجري استثمارها اليوم على يد الرئيس ميشال عون وصهره الوزير جبران باسيل، اللذين يسلِّمان الشبان السوريين الفارّين من موتٍ محتملٍ إلى موت مؤكّد حاقد.
ينقل حنا بطاطو في كتابه "فلاحو سورية.. " (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016)، عن القائد الفلسطيني الراحل، أبو إياد (صلاح خلف)، عن علاقة الأسد بمنظمة التحرير الفلسطينية، ومدى كرهه ياسر عرفات. وسعيه، في وقتٍ مبكر، للسيطرة على منظمة فتح، فيقول: "وقد صعقنا خلال الساعات الثلاث التي استغرقها حديثنا معه من مقدار الكراهية 
التي يكنها لأبي عمار" (ص 329). أما على صعيد لبنان الذي كان في منتصف السبعينيات الجبهة الأكثر خطورة على إسرائيل، لجهة الضغط عليها لإرغامها على الانسحاب إلى حدود 1967، وإيجاد حل للقضية الفلسطينية وفق مبدأ "العودة وتقرير المصير"، فماذا يقول بطاطو في الكتاب ذاته عن علاقة الأسد بكمال جنبلاط الذي كان مفوضاً من القوى الوطنية اللبنانية ورئيس جبهتها:
"تولدت عند كمال جنبلاط القناعة بأن صاحب فكرة توريط الأسد عسكريًا في لبنان هو وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر. وقد اجتمع الأسد بكمال جنبلاط في 27 مارس/ آذار 1976، ولأن جنبلاط مصممٌ على منع تحوّل بلده إلى (تابع) يدور في فلك الأسد، ودخول مواطنيه في السجن السوري الكبير، فشل الاجتماع..". ويتابع: و"لعدم قدرة الأسد على إخضاع كمال جنبلاط الذي لم يكن على وفاق مع الأسد، لا في الوسائل ولا في الغايات، فقد جرى اغتياله".
ويشير بطاطو إلى حرب المخيمات، من 1985 إلى 1988، إذ حرّض الأسد حركة أمل على مهاجمة المخيمات الفلسطينية، وزوَّدها بالسلاح والصواريخ والمدافع والدبابات، وعندما حقق المقاتلون الفلسطينيون عام 1986 تفوقًا في التلال المشرفة على صيدا، تدخّل الطيران الإسرائيلي في المعركة، وقصف الفلسطينيين. (ص 569). وبقيت "سورية البلد العربي الوحيد الذي لم يعترف بالدولة الفلسطينية التي أعلنها المجلس الوطني الفلسطيني، في 15 تشرين الأول/ أكتوبر" (ص 567). وذكر أيضاً أنَّ هنري كيسنجر نقل تعهداً من الأسد الأب بمنع تسلل المقاتلين الفلسطينيين إلى إسرائيل عبر الحدود السورية (ص 568).
ومن النافل ذكره في هذا المقام الدخول في العلاقة المأساوية بين حافظ الأسد وصدّام حسين، أو الإشارة إلى كثرة المتاجرة بالوحدات العربية الخلّبية التي جرت بين سورية وكل من العراق ومصر والسودان وليبيا واليمن بين ثنائية وثلاثية ورباعية، ولا إلى التذكير بالجبهات التي أنشئت، كالصمود والتصدي والمقاومة والممانعة، فكلها جاءت للالتفاف على توثب مشاعر
المواطن العربي وتسكينها.
والأخطر من كل ما حدث، ولعله تحصيل حاصل، لتلك السلسلة من السياسات الديماغوجية التي مارسها الاستبداد وأرفقها بألوان القمع كافة، هو ما قام به بشار الأسد، الرئيس الوريث لسورية، من تهديم آخر حصنٍ ممكنٍ أن يعوَّل عليه، وعلى إمكاناته، بسبب عوامل تاريخية وواقعية أيضاً. والمعني هنا أن الشعب السوري الذي هبّ مطالباً بأبسط الحقوق التي يمكن لها أن تقويه، وتزيد من فعاليته، وخصوصاً بعدما أُضْعِفت منظمة التحرير الفلسطينية، وأُخْمِدت جذوة الحركة الوطنية اللبنانية بقمع الجيش السوري "الباسل" واغتيالاته.. وتدمَّر العراق. وبداية هدم هذا الحصن الذي أراد أن يتنفس حرية ليكون أقوى وأمتن وأرسخ جاءت بإطلاق النار على مظاهراته السلمية، متهمة بالأخونة والإرهاب والعمالة، وحين استعصى عليه الأمر، استعان بالأجنبي وجيوشه ومرتزقته، فكان ما كان من قتل وتدمير وتهجير. وليأتي، في النتيجة، ذلك الاجتماع الثلاثي، لينزع القناع عن الوجوه، وليؤكد حقيقة 
اللعبة التي كان رامي مخلوف، ابن خال بشار، قد أعلن محتواها "إن أمن إسرائيل من أمن سورية"، فالكل يُجمع اليوم، وأولهم إسرائيل، على بقاء بشار الأسد، فهو وحده، بضعفه وهزالته، لا يؤمّن حدود إسرائيل فحسب، بل لم يبق لديه لا الفرصة ولا الإمكانية للمطالبة بالجولان، أو لمنع بناء مستوطنات جديدة، ومنها واحدة تحمل اسم ترامب.. ووجود بشار، كما يرى المجتمعون، ضروري، لا لحماية الحدود الإسرائيلية، بل لتسديد ديون القوى التي استدعاها لحماية وجوده وصمته أيضاً عن التي دخلت، حين وجدت الحدود مشرعةً لكل من هبّ ودب.. 
كان الدرس قاسياً جداً، ولم يكن سهلاً إسقاط تلك الأوراق، لولا أن خاض الشعب معركته. معركة الحرية حتى النهاية، وقدَّم الثمن الذي احتاجته معركتها الواحدة، وجوهرها حرية المواطن التي لا مساومة عليها، إفقدانها، أو فقدان جزء منها، يعني فقدان كل شيء، فجوهر الداء الذي ابتلي به السوري يكمن في الاستبداد الذي هو حال فرديةٌ قاتلة، بينما الوطنية حالٌ جماعيةٌ عامة. ولا سياج للوطن غير الشعب الحر، وما عدا ذلك تصوراتٌ وأوهام.
1D1ED1EA-2F95-436E-9B0D-9EA13686FACD
محمود الوهب

كاتب وصحفي وقاص سوري، له عدد من المؤلفات والمجموعات القصصية