عودة إسرائيل إلى حقبة الزمن العسكري؛ مسرحية "الزمن الموازي"

عودة إسرائيل إلى حقبة الزمن العسكري؛ مسرحية "الزمن الموازي"

23 يونيو 2015
لقطة من مسرحية "الزمن الموازي"
+ الخط -

داخل فلسطين، أو بصورة أدقّ، ذاك الجزء من فلسطين المكنّى بعام النكبة 1948، ثمّة حركة ثقافية، لا تقاس بما هي قويّة أو ضعيفة، لكنّها وبعد مرور أعوام طوال على الاحتلال والقهر، ما تزال تمارس أمرًا جوهريًا وفي صلب الوجود: ممارسة الهوّية.
ربّما لهذا يبدو أن ما حدث في حيفا لـ "مسرح الميدان" بعد العرض المسرحي "الزمن الموازي"، معبّرًا إلى حدّ كبير عن تلك الحركة، إذ لم تكن الثقافة الفلسطينية يومًا منبتة الصلّة عمّا هو سياسي، وذلك لأسباب موضوعية لا تخفى.
بدأت القصّة من الكلمات، ومن تلك الرسائل الأدبية التي كتبها الأسير وليد دقّة، القابع في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1986، على إثر اتهامه بخطف جندي إسرائيلي وقتله في عام 1984.
المخرج والممثل
لفتت الرسائل نظر المخرج ومعدّ المسرحية بشار مرقص، ووجد فيها مادّة أولية ممتازة للكتابة المسرحية، ويوضح مسار ذلك قائلًا في حديث مع "ملحق الثقافة": "قمنا ببحثٍ مسرحي، تطلّب من طاقم العمل أكثر من تسعة أشهر حول الأسرى السياسيين في العالم. ومن ثمّ تخصصنا بسجون الاحتلال الإسرائيلي. وتعرّفنا إلى العديد من القصّص الشخصية. والنصّ الذي توصلنا إليه يُصنف ضمن ما يعرف بـ مسرحيات السجن، لا يهتم في أسباب وصول الأسرى إلى السجن، لكن بحياتهم اليومية داخل السجن. وقد اعتمد البحث على الكثير من المواد، ورفدناه بنتائج العمل الميداني. استوحينا القدر الأكبر من قصّة المسرحية، من حياة الأسير وليد دقّة؛ من رسائل كتبها لعائلته، ومقالات ونصوص نشرها باسمه. يتعلّق بعضها بمحاضر المحاكم وشهادات، ومواد أخرى نشرت على الإنترنت. وفي إطار البحث المسرحي، تبادلت بدوري عبر البريد رسائل مع الأسير وليد. وأشير هنا إلى أن تلك الرسائل تمّت بشكل علني وقانوني، كنت أوجه له الأسئلة ويجيبني عنها"
وإذ بدا من كلام مرقص أن المسرحية مقتبسة من قصّة وليد دقّة ورسائله، بيّن المخرج أن الأمر يتعدى ذلك، فالأسير في السجن منذ ثلاثة عقود تقريباً، لكن خصوصية كتابته فتحت الباب أمام قصص أسرى غيره، أثروا بدورهم كتابة المسرحية: "الرسائل مأخوذة من فترات زمنية متباعدة على مدار ثلاثين عامًا من وجود وليد في السجن، وكذلك من اللقاءات التي أجريناها مع أفراد عائلته؛ زوجته وأمّه وإخوته. كلّ المواد التي حصلنا عليها حول قصّة وليد وقصص أسرى آخرين، شكّلت المنبع والمادة الخام، التي من خلالها ألّفنا النصّ المسرحي، ففي المسرحية لا يوجد شخصية اسمها وليد دقّة، ولكن مجموعة من الشخصيات المستوحاة من حياة الأسرى".

اقرأ أيضاً: وطن بلانش

ويبدو أن مسار العمل في أصله، كان "ديمقراطيًا" لو جاز التعبير، إذ تعاون مخرج المسرحية مع طاقم الممثلين في إنجاز النص، هذا ما يظهر من كلام الممثل هنري أندراوس الذي يؤدّي دور الأسير: "الزمن الموازي، هي نتاج فترة من البحث قام به طاقم المسرحية عن حياة الأسرى عمومًا، حتى وصلنا إلى اسم وليد دقّة بالذات، الذي كانت قصته مثيرة جدًا لطرح أسئلة كثيرة وجودية وإنسانية. في شخص وليد، مزيجٌ من الخصال؛ الحبّ الكبير والتضحية والأنانية والأخطاء والإبداع والتحمّل والفكاهة والنرجسية وفلسفة حياة غير تقليدية وتغييرات لا تنتهي في مسيرة حياته وآرائه. كلّ هذا جعل من قصّته ورسائله، مادّة فنية درامية مثيرة، تحمل أسئلة للجمهور. فهي شخصية حاملة لكثير من التناقضات، وهو الأمر الذي يريده كلّ ممثل، من أجل أداء شخصية مثيرة ودسمة على خشبة المسرح".
لم يمر عرض المسرحية على خشبة مسرح "الميدان" مرور الكرام بالطبع، فقد استقطب الجمهور الفلسطيني، وهذا بالطبع ما أزعج الإسرائيليين. بيد أن الأمور لم تقف عند هذا الحدّ، بل تفاقمت وتحديدًا منذ "يوم الأسير الفلسطيني" المصادف في السابع عشر من إبريل/ نيسان، حيث قامت مجموعات وجماعات يهودية متطرّفة، بتحريض واسعٍ على مسرح "الميدان" بعد عرضه المسرحية، والحجة أنه يعطي شرعية لشخص وصفوه بـ "المجرم"، والمقصود بالطبع الأسير وليد. حاولت تلك الجماعات منع العرض المسرحي، لكن المنظّمين أصرّوا على عرضه. وهنا لجأ المتطرّفون إلى بلدية حيفا والمؤسّسات الرسمية الإسرائيلية، مطالبين بإيقاف تمويل لا المسرحية فحسب، بل مسرح "الميدان" برّمته. يقول الممثّل أندراوس في هذا الصدد : "المسرح بالأساس ومسرحنا الفلسطيني خصوصًا، قوّي بما فيه الكفاية كي يقلب الدنيا رأسًا على عقب. والفنّان الفلسطيني يحمل حملين؛ حمل المسيرة الذاتية الشخصية وحمل المسيرة الجماعية. وهو ما يجعل مواهبنا دسمة ومشبعة. ما لم أتوقعه حقيقةً، أن تنجح مسرحية "الزمن الموازي" بالكشف عن وجه الدولة لتجعل منها جسمًا ضعيفًا غير مُحصّن، كاشفًا عن كلّ ما يفكر فيه هذا النظام، وإلى أي وجهة يسوق الثقافة في هذه البلاد. هذه هبّة لا بدّ منها لنفهم كيف سنتصرّف في الفترة القادمة، ونفهم كيف نتعامل ومع من. في النهاية الوزارات والوزراء والوزيرات شيء عابر. لكن المسرح والفنّ باقيان، والمسرح سيؤرخ ويُدرس في ما بعد. الاستمرار في الانتاج والعروض هو ردّي على الفترة الحالية. وظيفة المسرح أن يسأل لا أن يجيب. وأنا بدوري سأتواجد دائمًا أينما تتواجد الأسئلة الحقيقية".
وفي كلام الممثل إشارة واضحة لاتساع أمر "سخط" إسرائيل، إذ إن الإجراءات التي اتخذتها ضدّ المسرح والمسرحية، باتت تهدد وجود مسرح "الميدان" نفسه الذي تعدّه شريحة من الفنانين والمثقفين، المسرح القومي لفلسطينيي الداخل منذ تأسيسه عام 1994، فقد أعلن وزير التربية والتعليم نفتالي بينيت، حرمان مسرحية "الزمن الموازي" من مخصّصات السلة الثقافية التي تدعم عروض المسرح في المدارس والجامعات والكليات ومؤسسات أخرى. وهو ما تناغم مع قرار أصدرته بعد أيام قليلة وزيرة الثقافة الإسرائيلية ميري ريجيف، بقطع التمويل عن المسرح خصوصًا بعد تحريض المتطرفين، بل إنها لم تتوانى عن المطالبة بفحص ما إذا كان المسرح على صلة بجهات "إرهابية" تموله، واتهمته بالتهمة الجاهزة ؛ معاداة إسرائيل.

مقاومة بالقانون والنقد

والتقى "ملحق الثقافة" المديرة الفنية للمسرح سلوى نقارة، التي نفت اتهامات ريجيف، وعدّتها "إرهابًا فكريًا وتحريضًا يهدف إلى قمع حرية من يحمل رواية مختلفة عن روايتها وأجندتها، فهي القاضي والجلاد. ومسرحية "الزمن الموازي" مجرد ذريعة لإخضاعنا لما تريده، ولكننا لن نخضع. ما يحدث يعيد لأذهان حقبة الحكم العسكري، فالأمر لم يتوقّف عند "الزمن الموازي". واضح أنه ليس مرغوب فينا، وتريدنا ريجيف قطيعًا نسير وراء املاءاتها". وأوضحت نقارة كيف تدرّج الأمر من البلدية إلى الوزراء :"كانت بلدية حيفا قد جمّدت الميزانيات الخاصة بمسرح الميدان بعد عرض مسرحية "الزمن الموازي"، وأخضعت إدارته لتحقيقات. واليوم يطل بينيت وريغيف بقرارات وتصريحات جديدة، تصبّ في السياق نفسه. يريدون التدخّل بمضمون أعمالنا. عندما يتعاملون مع عرب يصبحون فوق القانون. الفنّ يدور حول قضايا إنسانية، يبدأ بالإنسان وينتهي به. ولكن يبدو أن طرح الأسئلة البشرية الإنسانية غير مناسبة لهم".
ويبدو أن هذا ما في الأمر، فإسرائيل تنزعج من إنسانية الفلسطينيين وتريد طمسها، وتفضّل صورتهم كإرهابيين فحسب، لتبرّر قمعها واحتلالها وصورتها المقيتة. بيد أنّ الفنّ يستمّد قوّته تمامًا من طابعه الإنساني، وهذا ما كان واضحًا في ذهن المخرج مرقص: "في إطار مسرح السجن، نركّز على حياة الأسير اليومية داخل السجن. والأصل أن يكون التعامل مع الأسرى إنسانيًا وأن تحفظ حقوقهم. تناولنا قضيتهم كأشخاص لديهم أحلام، بأن يتزوجوا وأن يحظوا بحقّ الإنجاب والأبوة، وبأحلام أخرى. من يثيرون العاصفة اليوم حول المسرحية، هم أشخاص لم يشاهدوها ولا يعرفون عمّا تتحدث. التحريض نابع من أفكارهم وأهدافهم السياسية، وهذا يدلّ على عماهم، وعلى أنهم مستعدين لقمع حتّى حرية التعبير على خشبة المسرح. هذه محاولة لكمّ الأفواه. أعتقد أن أكثر ما أخافهم أن وليد دقّة يتحول شيئًا فشيئًا إلى نلسون مانديلا بشكلٍ ما. فهو بات قائدًا وشخصًا مثقفًا وقادرًا على التجدّد. لم يتوّقف وعيه مع دخوله إلى السجن، بل استمّر بالحلم والتطور، وهذا على ما يبدو يخيفهم".
ليست قصّة المسرحية منبتة الصلّة عن السياق السياسي في فلسطين على الإطلاق، بل يمكن عدّها تمثيلًا لقمع إسرائيل للفلسطينيين. ومن أجل وضع المسرحية ضمن سياقها، كان لا بدّ من اللجوء إلى النقد، كذا التقى "ملحق الثقافة" الناقد والكاتب الفلسطيني أنطوان شلحت، الذي بيّن منظور الأمر قائلًا: "ما يتعرّض له مسرح "الميدان"، هو نوعٌ من الانتقام السياسي الذي يعيد الى الأذهان فترة الحكم العسكري الإسرائيلي الذي كان يمنع الفلسطينيين في الداخل من التعبير عن رأيهم، خصوصًا في ما يتعلّق بالأمور التي تعدّها المؤسّسة الإسرائيلية محرّمة. هذا أيضًا جزء من ملاحقة سياسية أوسع نطاقًا يشهدها الكيان الإسرائيلي منذ نحو عقد من الزمان، وتتسم بهجوم يميني غير مسبوق على الهامش الضيّق لحرية التعبير أصلًا. و"الزمن الموازي" تحوّلت الى شمّاعة، الهدف منها وضع خطوط حمراء أمام مسرح الميدان لغايات إيديولوجية، ورهن ذلك بكلّ مسألة التمويل، رغم أن التمويل حقّ لهذا المسرح وليست منّة". ولا ينساق الناقد وراء مظاهر الأمور، بل يضع أيضًا مسرح "الميدان" وتجربته في سياقه، إذ يقول: "تأسّس مسرح الميدان باعتباره المسرح القومي للفلسطينيين في الداخل. هذه كانت رؤيته في حينه. وبطبيعة الحال من حقّه ومن واجبه عكس هذه الرؤية من خلال التعبير عن الرؤية الجماعية للفلسطينيين في الداخل؛ القومية والوطنية، باعتبارهم جزءً من الشعب الفلسطيني. وأي شيء أدنى من ذلك يجعله فاقدًا من رسالته الأصلية. لدى المسرح الكثير من الإنجازات المسرحية التي تسجّل أيضًا كإنجازات فنية ووطنية. لكن، إذا كنا نريد وضعه في الميزان، في ما إن قام بدوره كمسرح قومي للفلسطينيين في الداخل، فالمسألة تحتاج الى دراسة".

أزمة تمويل أيضًا

بيد أن "مدير جمعية الثقافة العربية" الكاتب إياد برغوثي يرى أن "قضية" مسرحية "الزمن الموازي" تعكس : "الأزمة الحقيقية والأساسية للعمل الثقافي الفلسطيني في الداخل، وهي في أساسها أزمة تمويل. والعلاقة بين هذا التمويل ومضامين وهوية الأعمال الثقافية". ويوضح موقع مسرح "الميدان" قائلًا :"من المفترض أن لدى كل شعب عمومًا، مسرح قومي أساسي، ينتج الأعمال المسرحية المركزية الكبيرة والكلاسيكيات، ويؤدّي دور المسرح الحديث. ويفترض بمسرح الميدان تأدية هذا الدور. صحيح توجد فرق مسرحية صغيرة أخرى في مجتمعنا في عدة بلدات، تنتج للأطفال أو المدارس أو غير ذلك، بيد أن أهمية مسرح الميدان، تكمن في أنه ومنذ بداية إنشائه في منتصف التسعينيات، تمّ تعريفه كمسرح عربي في إسرائيل. وقد كان ثمة، خلال مسيرته على مدار أكثر من عقدين، تفاوت في أدائه. فقد أنتج، في فترات معينة، أعمالًا تتضمّن مقولة ثقافية وعمقًا ثقافيًا وجودةً فنية عالية. وفي فترات أخرى، كانت جودة إنتاجه والأجواء فيه وحوله أقلّ إيجابية. تكمن قوّة المسرح باعتباره مكانًا يجمع الناس مع المثقّفين والفنانين. هو منصة لا تقتصر على الفنّون المسرحية بل تشمل فنونًا أخرى. ويشكّل منصة ثقافية متنوعة، وفي فترة معينة تمكن الميدان من تأدّية هذا الدور".
وفي ما يخصّ قضيّة المسرح اليوم، يضيف برغوثي : "توجد محاولة لإخضاع مسرح الميدان، لئلا يتناول ما يخالف الإجماع الصهيوني. وإذا لم تنجح، فخطوات المؤسسة الإسرائيلية ستتجه لتجفيف موارده بهدف إغلاقه. وبما أن مسرح الميدان هو المسرح العربي الأساس ويحصل على التمويل الأكبر من بين المسارح العربية، فهي رسالة للآخرين أيضًا بأن أي تحدٍ أو أي إنتاج ثقافي غير مناسب لأجندة الحكومة سيكون خارج التمويل". ويبدو مدير "جمعية الثقافة العربية" واعيًا لأثر التمويل في العمل الثقافي، (وقد اشترت الجمعية خمسة عروض من المسرحية) مبينًا أن الجمعية رفضت دومًا الاعتماد على التمويل الحكومي الإسرائيلي، فهناك طرق أخرى مستقلّة يمكن للمنابر الثقافية اللجوء إليها حفاظًا على هويتها وعلى نفسها من الإملاءات الإسرائيلية".
تفصح قضية "الزمن الموازي" عن مشاكل وأزمات مركّبة يعيشها العمل الثقافي الفلسطيني في الداخل، فلئن نجحت رسائل الأسير بتجاوز قضبان السجن، إلا أنها اصطدمت بقضبان إسرائيلية أخرى، يشغل التمويل فيها حصّة كبيرة. وهذا أيضًا رأي المديرة الفنية للمسرح سلوى نقارة التي بيّنت أن "تردّي الاوضاع من شأنه، الحيلولة حتّى دون توجه طاقم المسرح لمشاركة مقرّرة الشهر القادم في مهرجان في المغرب، إلا إن وجد من يدفع ثمن تذاكر السفر".

المساهمون