جولييت توما: قيود على عمل "أونروا" والحياة في غزة لا تليق بالبشر

جولييت توما: فرض قيود على عمل "أونروا" وحياة الفلسطينيين في غزة لا تليق بالبشر

28 يناير 2024
زارت جولييت توما قطاع غزة خلال العدوان (العربي الجديد)
+ الخط -

سلطت مديرة التواصل والإعلام في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، جولييت توما، في مقابلة خاصة مع "العربي الجديد"، الضوء على الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي قطاع غزة في ظل العدوان الإسرائيلي، بالتزامن مع مناشدة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرس، الدول التي علقت مساهماتها للوكالة بمواصلة تقديم الدعم.

- دعينا نبدأ من زيارتك الأخيرة إلى غزة مع وفد من وكالة "أونروا" كان على رأسه المفوض العام فيليب لازاريني. هل لنا أن نبدأ بما شاهدتموه؟ وكيف تصفين الأوضاع هناك؟

هذه الزيارة الثانية لي منذ أن بدأت الحرب، والرابعة للمفوض العام للوكالة، وقد تنقلنا في وسط وجنوب قطاع غزة. الأوضاع مأساوية، ولا أدري إن كانت هناك كلمات يمكن أن تصف الوضع الذي يواجهه الفلسطينيون في قطاع غزة. مرت أكثر من مائة يوم كان يعيش فيها مئات الآلاف من الأشخاص حياة لا تليق بالبشر. إذا كان يمكن أن نلخص معنى المعاناة الإنسانية حالياً فإن غزة نموذج معبر. تتراص في جنوبي غزة هياكل، لا يمكن حتى وصفها بالخيام، وكلها هياكل عشوائية، وهي غالباً مكونة من عمودين من الخشب، ومغطاة بالبلاستيك. هناك عشرات الآلاف منها في منطقة رفح تحديداً وصولاً إلى الحدود مع مصر، وأصبحت بحسب تقديراتنا مأوى لقرابة أربعمائة ألف شخص. اضطر الناس للجوء إلى أي مساحة خالية، وهم يبقون على الأرصفة وفي الشوارع وعلى شاطئ البحر، ولا يمكن المرور حتى بالسيارات. رأينا هذه الهياكل أيضاً داخل مباني أونروا المكتظة أصلاً بالنازحين. على سبيل المثال، زرنا إحدى مدارسنا في دير البلح، فوجدنا أن الناس اضطروا إلى تشييد تلك الهياكل في ساحة المدرسة وملعبها، ودخلت إلى إحدى، فوجدت أنه يعيش فيها 26 شخصاً، رغم أن المساحة لا تتجاوز 3 أمتار مربعة. الناس ينامون على الأرض، وهناك غطاء واحد للجميع، ويضطرون للطبخ والنوم وعمل كل شيء في تلك الخيمة. إلى جانب كل هذا، هناك مياه تغرق المكان، إذ أمطرت السماء قبل يوم من وصولنا. كلها أوضاع غير صحية، ومزرية.

- هناك شعور عند غالبية الغزيين، وعند الفلسطينيين عموماً، بأنه يمكن لأونروا أن تقدم المزيد. ليس فقط بعد الحرب، بل حتى خلالها، فهي المصدر الوحيد للكثير من أهل غزة في ما يتعلق بالخدمات الأساسية. ما تعليقك؟

وكالة أونروا هي أكبر منظمة إنسانية تعمل في غزة، ولدينا أكثر من 13 ألف موظف في القطاع، والغالبية العظمى من مراكزنا كانت تقدم التعليم لقرابة 300 ألف طفل وطفلة. منذ بدء الحرب، اضطررنا إلى إغلاق كل المدارس، وفي الأيام الأولى للحرب فتحنا مرافق أونروا لتصبح مراكز إيواء كي يحصل الناس على الحماية. مع العلم أننا رصدنا أكثر من 230 ضربة على مرافقنا، من بينها مرافق كان فيها نازحون، وبالتالي قتل أكثر من 300 شخص نتيجة ذلك. هناك قيود مفروضة على عمل أونروا في غزة، فمثلاً لا يسمح لنا إلا بإدخال القليل من المساعدات، ولا نستطيع الوصول إلى كل الناس، مناطق الشمال مثلاً، ومن نستطيع الوصول إليهم، لا نصل إليهم بشكل دوري أو مستدام. لكن طواقمنا تعمل ليل نهار في توزيع المساعدات، وتقديم الرعاية الصحية الأولية، وتقديم الدعم النفسي، بينما الاحتياجات مهولة، ولا يمكن لأونروا وحدها خدمة  الجميع، أو ضمان أن تصل المساعدات إلى كل شخص.

- بحسب آخر التقارير الأممية، فإن إسرائيل سمحت بدخول ربع كمية المساعدات الطارئة التي طلبت الأمم المتحدة دخولها خلال أول أسبوعين من شهر يناير/ كانون الثاني إلى مناطق الشمال، مؤكدة أنه حتى تلك التي يسمح بدخولها تمر بمراحل بيروقراطية إضافية. ما هي المراحل التي تمر بها الشحنات قبل أن تسمح إسرائيل بدخولها؟

بداية لا بد من التذكير بأنه قبل بدء الحرب كان يدخل غزة قرابة 500 شاحنة يومياً عن طريق معبر كرم أبو سالم، وأغلبيتها كانت سلعاً تجارية للقطاع الخاص، و20 في المائة منها مساعدات إنسانية، بما فيها الوقود. منذ بدء الحرب وحتى الآن، لم يدخل نفس المعدل اليومي من الشاحنات، ولا حتى عدد قريب من هذا الرقم، وفي أول أسبوعين من الحرب، حين أعلنت إسرائيل حصاراً شاملاً على القطاع، لم يسمح بدخول أي شيء إلى غزة، وهذا يعني أن هناك 5 آلاف شاحنة لم يتم تعويضها حتى الآن نتيجة ذلك الحصار المشدد. إذاً لا توجد مساعدات كافية تدخل، وتصل نسبة قليلة من الواردات التجارية، ما يعني أن أغلبية الناس أصبحوا يعتمدون على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة.

هناك عملية معقدة وغير ضرورية وضعت لفحص الشاحنات، إذ تذهب الشاحنات إلى معبر العوجة (تسميه إسرائيل معبر نيتسانا)، وهو يبعد قرابة 40 كيلومتراً إلى الجنوب من معبر رفح، وهو معبر تجاري يصل بين إسرائيل ومصر، ويتم استخدامه لفحص الشاحنات، ومن هناك تعود عن طريق محور فيلادلفيا، وهو منطقة عازلة تمثل شريطاً حدودياً بين مصر وقطاع غزة طوله 14 كيلومتراً، ويمتد من البحر المتوسط شمالاً إلى معبر كرم أبو سالم، لتعود إلى رفح، ويتم تفتيشها مجدداً من قبل المصريين، وبعدها تدخل إلى غزة. معبر رفح غير مؤهل لمرور الشاحنات، فهو معبر مخصص للأفراد، وكل هذا يعرقل عملية وصول الشاحنات. وقبل نحو ثلاثة أسابيع، فتح الإسرائيليون معبر كرم أبو سالم، وهو مهيأ لاستيعاب الشاحنات، وكانت تلك وظيفته في السابق، والآن يسمح للأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية بإدخال المساعدات عن طريقه. أما السلع التجارية والوقود، فإنها تذهب إلى العوجة ومن ثم تعود إلى رفح. رغم كل هذا، فنحن نتحدث عن كميات لا يتلاءم حجمها مع الحاجة الحالية في قطاع غزة، ولا تصل إلى مستويات ما قبل الحرب.

- قصفت إسرائيل عدداً من المدارس التابعة لأونروا، وقصفت جامعات في غزة. ما هي المخاوف التي تساوركم فيما يخص مستقبل التعليم؟

يمكنني التحدث فقط عن أونروا، وليس بشكل عام. لكن وضع التعليم كارثي، فضلاً عن قتل آلاف الأطفال. قبل الحرب كانت أونروا تقدم الخدمات في قرابة مئتي مدرسة لنحو 300 ألف فتى وفتاة من الصف الأول إلى الصف التاسع. كل هذا توقف، والكثير من مدارسنا، للدقة أغلبها، أصبحت ملاجئ لإيواء الناس، وخسر الطلاب أكثر من ثلاثة أشهر من التعليم. ونحن نتحدث عن خطر حقيقي قد يؤدي إلى ضياع جيل كامل من الأطفال في غزة. كلما قضى الأطفال مدة أطول خارج المدارس يصبح من الأصعب تعويض تلك الخسارة، ونعرف هذا على نطاق دولي من تجربة كورونا، فضلاً عن الآثار النفسية والجسدية، فقد عاشوا وشاهدوا أشياء يجب ألا يعيشها أي إنسان، فما بالك إذا كان طفلاً. نحن نتحدث عن مكان قرابة نصف السكان فيه من الأطفال، وهناك نحو مليون طفل يعيشون في غزة.

- في البيان الصادر بعد زيارتكم توقفتم عند انتشار الأمراض، وتبعات عدم وجود المياه النظيفة، فهل لك أن تتحدثي أكثر عن هذا الموضوع؟

النظافة الشخصية شبه معدومة في غزة حالياً، ومن الصعب أن يتمكن أي نازح من الحصول على مياه نظيفة للاستحمام أو الاستخدام اليومي. نتحدث عن منطقة أصبح 85 في المائة من سكانها نازحين، والوضع يصبح أكثر مأساوية في هياكل الخيام التي تم تشييدها، حيث لا توجد خدمات أو حمامات. حتى في الملاجئ ومراكز الإيواء كالمدارس، فإن المراحيض غير كافية بالمرة، وبعضها لا يوجد فيها حمامات، والناس تنتظر لساعات لاستخدام الحمام. الوضع بالطبع أصعب بالنسبة للفتيات والنساء بسبب الاحتياجات الإضافية وغياب مستلزمات النظافة الشخصية، كالفوط الصحية، وهي ناقصة بشكل كبير، وهناك نساء وفتيات قلن إنهن يأكلن ويشربن كميات أقل كي لا يضطررن لاستخدام المراحيض كثيراً، فضلاً عن انعدام وجود الخصوصية، فالناس بعضهم فوق بعض. هذه ليست حياة تناسب البشر.

- هل سُجّلت حالات وفيات بسبب الجوع أو انتشار الأمراض؟

الحصار المفروض على غزة يقتل الناس على أكثر من صعيد، من بينها الجوع، والأمراض، فالكثير من الأدوية غير متوفرة، خاصة للأمراض المزمنة كالسكري وضغط الدم والسرطان، والصيدليات أغلقت أبوابها، وبالكاد هناك سلع تجارية تدخل إلى غزة. ربما دخلت بعض أدوية الأمراض المزمنة في الصفقة الأخيرة التي تم الإعلان عنها بتيسير قطري فرنسي، لكن أونروا لا تدخل أدوية من هذا القبيل، وما ندخله في العادة هو الأدوية الأساسية. هناك موضوع آخر لا يمكن فصله عن الوضع الطبي، وهو شبكة الاتصالات، إذ لا يمكن تقريباً إجراء أي اتصال داخل غزة بين الهواتف النقالة بسبب انهيار شبكة الاتصالات في أغلب الوقت، وهذا يعني مثلاً أن شخصاً أصيب بجلطة لا يمكنه الاتصال بالإسعاف. هناك شبكة إنترنت أحياناً، لكنها تنقطع في الكثير من الأحيان، وهي غير متوفرة في جميع المناطق. نتحدث عن مناطق وأناس انفصلوا بعضهم عن بعض داخل القطاع، وجرى فصلهم عن العالم الخارجي، وهذا له تأثيرات على تسيير العمليات الإنسانية، فلا نستطيع الحديث مع سائقي شاحنات المساعدات للتنسيق معهم. كل هذا قائم في وقت انفصلت فيه العائلات بعضها عن بعض لأسباب كثيرة، وشمال القطاع حالياً مقطوع بشكل كامل عن بقية المناطق، وتقديم المساعدات في الشمال صعب لأنه يعتمد على موافقة السلطات الإسرائيلية، وعندما تأتي الموافقة يرافقها تأخير على حواجز الجيش التي تفصل بين الشمال والجنوب، وقد تبقى القوافل التي حصلت على موافقة متوقفة لساعات.

- هل هناك أي دعم نفسي يقدم؟ وماذا عن ذوي الاحتياجات الخاصة؟

هناك عدد من برامج الدعم النفسي، لكن حتى الذين يقدّمون دعماً نفسياً لغيرهم هم أنفسهم متأثرون، ويعانون من الصدمة، أو تعرضوا للقصف، ويسعون إلى تلبية احتياجاتهم الأساسية كبقية أهل غزة، فهم جزء من الشعب. الوضع مختلف عن الحروب السابقة، إذ كانت تُقصف منطقة ولا تتضرر بقية المناطق. نتحدث عن حرب تطاول كل مناطق القطاع، ونزوح داخلي من كل المناطق. أما وضع ذوي الاحتياجات الخاصة فهو مأساة بحد ذاتها، فالكثير منهم لم يتمكنوا من النزوح من منطقة إلى أخرى لأن هناك ترتيبات كثيرة ومعقدة، من بينها أنه لا يمكنهم التحرك.

المساهمون