أبناء الفلسطيني زكريا عاصي في انتظار العودة إلى دير طريف المهجرة

14 مايو 2022
لا فرحة تكتمل في عائلة زكريا عاصي من دون التراث الفلسطيني (العربي الجديد)
+ الخط -

في كلّ ركن من أركان منزلها في مخيّم بلاطة للاجئين الفلسطينيين شرقي مدينة نابلس شمالي الضفة الغربية المحتلة تعرض خولة عاصي ما يذكّرها بأنّها ابنة قرية دير طَرِيف المهجّرة إبان نكبة فلسطين عام 1948، تلك القرية الواقعة في وسط البلاد المحتلة اليوم، ما بين مدينتَي اللد والرملة. فترى مجسّماً لمفتاح حقّ العودة أو زيّاً تراثياً كانت والدتها وجدّتها ترتديانه "أيام البلاد" في مسقط رأسَيهما؛ دير طريف.

ولا تبدو الحال مختلفة كثيراً لدى أشقائها الثلاثة وشقيقتَيها الذين استقرّوا قبل عقود في كندا، وقد حرمهم الاحتلال الإسرائيلي من وطنهم. فهؤلاء زيّنوا جدران منازلهم في المهجر بخريطة فلسطين التاريخية، في حين وزّعوا في الأرجاء مجسّمات تراثية من الوطن وسلال قشّ وبسطاً تقليدية ملوّنة.

تخبر خولة "العربي الجديد" أنّه في عام 1948 "خرج والدي زكريا علي عاصي الذي كان مزارعاً، برفقة أمي وزوجته الثانية، من دير طريف، ومعه خمسة من الأبناء، لكنّ الصغيرة توفّيت في حادثة دهس بعد أيام قليلة ليلحقها أخي الكبير وقد أرداه المرض. وبعد أشهر قليلة، وصلت العائلة إلى مخيّم بلاطة في نابلس حيث كان المستقرّ. وفي المخيّم، أنجب والدي ثمانية ذكور ومثلهم من الإناث"، لافتة إلى أنّ "ذريّة زكريا الطريفي (نسبة إلى دير طريف) تزيد اليوم عن 240 فرداً ينتشرون في عدد من الدول العربية والغربية".

خولة التي ولدت عام 1958، بعد عشرة أعوام من النكبة، تقاعدت قبل مدّة وجيزة من مهنة التعليم. تقول: "والدي كان يحفظ قريته عن ظهر قلب، عائلاتها، وأنسباءه، ومهن الرجال فيها، وتضاريسها، ومزروعاتها... وكما غيره، بقي لديه أمل بالعودة، حتى آخر نفس له". يُذكر أنّه أسلم الروح قبل ثلاثين عاماً، في مايو/ أيار من عام 1992، "بعد 44 عاماً على تركه قريته".

وزكريا، كما سواه من اللاجئين، كان يروي لأبنائه وأحفاده قصص النكبة واللجوء. وتستذكر خولة: "حفظنا تلك الأيام العصيبة عن ظهر قلب؛ الخروج من دير طريف والمرور ببلدات وقرى عدّة، والمبيت في العراء، والجوع والعطش والتشتّت. كان ذلك كلّه مؤلماً، ونحن حرصنا على نقل الرواية إلى أبنائنا وأحفادنا للمحافظة عليها".

وتعبّر خولة عن فخرها وهي تخبر أنّ أولادها، ثلاث بنات وابناً واحداً، "يعرفون عن وادي الحوارث (قرية والدهم) ودير طريف أكثر ممّا يعرفون عن مخيّم بلاطة. من عايش منهم جدّه قبل وفاته سمع الحكاية منه، ومن كان صغيراً نقلناها إليه بدورنا. وهم جميعاً، بدورهم، سوف ينقلونها إلى الأجيال المقبلة". وخولة تزوّجت بسمير السروجي الذي يعود أصله إلى قرية وادي الحوارث المهجرّة التي تقع بين يافا وحيفا، وقد دُمّرت بدورها وطُرد أهلها منها في عام 1948.

الصورة
مخيم بلاطة في الضفة الغربية المحتلة (العربي الجديد)
في مخيّم بلاطة استقرّ زكريا عاصي بعد النكبة (العربي الجديد)

وبينما بقيت خولة في فلسطين، غادرها إخوتها بعد مرحلة الثانوية العامة أو الدراسة الجامعية. ثمّة من توجّه إلى بلدان خليجية مختلفة، غير أنّ الأغلبية اختارت كندا. وتقول خولة: "صحيح أنّهم بعيدون عن فلسطين، لكنّني متأكدة أنّ دير طريف أحبّ إليهم من البلدان حيث يعيشون. وهم على الرغم من انشغالاتهم الحياتية لم ينسوا وصيّة والدي بالتمسّك بحقّ العودة وإحياء الذكرى في نفوس أبنائهم".

ويحافظ المغتربون على علاقتهم بالمخيّم ويلبّون احتياجات ساكنيه عن طريق مؤسسات خيرية فاعلة فيه، علماً أنّ خولة عاصي تؤدّي دور الوسيط المباشر بين الطرفَين. وتقول: "لم ينسوا قطّ حياة المخيّم وصعوبتها، ويشاركون دوماً في كلّ النشاطات التي تجرى هنا، ولا يتأخّرون لحظة واحدة عن تقديم الدعم المادي وكذلك المعنوي للأهالي". وتلفت خولة إلى أنّه "نحن معروفون بعائلة الطريفي في الخارج. ودير طريف التي لا أعرفها إلا من الصور والحكايا مزروعة في قلبي وفي قلوب الأبناء والأحفاد".

وفي كندا، تنشط ابنة أخي خولة، لينا خالد عاصي البالغة من العمر 28 عاماً، في منظمة شبابية تُعنى بحقوق الشعب الفلسطيني، خصوصاً حقّ العودة ومقاطعة البضائع الإسرائيلية. هي تحمل شهادة ماجستير في الحقوق، وتُعرّف عن نفسها بـ"لينا عاصي الطريفي من قرية دير طريف - فلسطين المحتلة"، مؤكدة "هذا مصدر فخر لي". وتخبر لينا "العربي الجديد" أنّ "أبي زرع فينا حبّ فلسطين، ويذكّرنا دائماً بأنّنا لاجئون وقد خرجنا عنوة من بلادنا ويجب أن نعود إليها في يوم. وهو كان ينقل لنا حرفياً كلّ ما قاله له جدّي عن دير طريف، ونحن من جهتنا حفظناه. واليوم حان دوري لأنقل ذلك إلى آخرين وأزرع فيهم حقّ العودة".

تتمنّى لينا أن تزور فلسطين "بلد والدي وأجدادي". وتقول: "دأب والدي وأعمامي وعمّاتي على زيارة فلسطين في الإجازات الصيفية في كلّ عام أو قدر استطاعتهم، وهم كانوا يستفيدون من ذلك لتجديد بطاقة الوكالة التي تُعَدّ هوية اللاجئ الفلسطيني. وتجديدها ليس بهدف الحصول على معونات تقدّمها الوكالة (وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين - أونروا) مطلقاً، بل لكي نحافظ على حقّنا الأبدي في فلسطين وحقّنا في العودة إلى مسقط رأسنا".

الحال تنسحب كذلك على ابن أخي خولة، عز الدين كمال عاصي، الذي احتفل بزفافه قبل أشهر عدّة فقط في تركيا. ويقول لـ"العربي الجديد": "اشترطنا في حفل زفافي أن ترتدي النساء الفلسطينيات الأثواب التقليدية ويضع الرجال الكوفية". يضيف عز الدين: "لم يكن حفل زفاف عادياً، بل تظاهرة وطنية حضرت فيها فلسطين ورُفع اسم دير طريف"، مؤكداً أنّه كان "مناسبة لنجدّد ولاءنا لوطننا ونطمئنّ أنّنا لم ولن ننسى تلك البلاد مهما كبرنا وانشغلنا بأعمالنا وحياتنا الخاصة".

تجدر الإشارة إلى أنّ قرية دير طَرِيف تقع على السهل الساحلي للأراضي الفلسطينية المحتلة في عام 1948، إلى شمال شرق مدينة الرملة وشرق مدينة اللدّ. وهي كانت تابعة إدارياً لمحافظة الرملة، ولها شبكة من الطرقات تربطها بالمدن والقرى المحيطة، علماً أنّها كانت تقع في جوار طريق عام يتّجه شمالاً إلى طولكرم شمال غربي الضفة الغربية، فضلاً عن كونها واقعة إلى الشرق من مثلث طرقات عامة تصل ما بين اللدّ والعباسية ويافا.

احتُلّت قرية دير طريف في يوليو/ تموز من عام 1948، وقد استخدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي الطائرات لإلقاء القنابل عليها وعلى أهلها، الأمر الذي أدّى إلى إصابة عدد كبير من سكانها. وفي وقت لاحق، في عام 1949، أقيمت على أراضي القرية مستوطنة "بيت عريف" ومستوطنة "كفار ترومان" إلى غربها.

وقد سكنت قرية دير طريف عائلات كثيرة هي أبو زيد، والناطور، وأبو عين، والشيخ، وحمودة، وخليل، والفقيه، وداود، ودرّس، وكاملة، ومصلح، والعطينة، والعية، والقيم، وحسن، وريان، وسرية، وشلطف، وصدقة، وطه، وعاصي، وعفانة، وعلان، وقميحة، وقنديل، ومعدي، وهويل، وآل حمد.

المساهمون