محاضر حكومة إسرائيل غداة النكسة: "الخطر الديمغرافي" وتهجير المقدسيين

مناقشات الحكومة الإسرائيلية غداة النكسة: خروج من الخوف وتهجير سكان القدس

20 مايو 2017
بحثت الحكومة حينها كيفية طرد أهل القدس(أحمد غرابلي/فرانس برس)
+ الخط -


تدل المحاضر التي بدأت إسرائيل بكشفها أمس، مع مرور خمسين عاماً على حرب يونيو/ حزيران 1967 التي أطلق عليها العرب حرب "إزالة آثار العدوان" وانتهت بتسميتها بحرب النكسة، على أن حكومة الاحتلال الإسرائيلي انتقلت من حالة الخوف والقلق قبيل الحرب، وعند إقرار اللجنة الوزارية للشؤون الأمنية، في 4 يونيو بتخويل رئيس الحكومة ليفي أشكول، ووزير الأمن موشيه ديان، تحديد ساعة الصفر وشن الهجوم على قواعد الطيران العربية، إلى حالة النشوة حتى قبل انتهاء المعارك. ففي اليوم الثاني للحرب أعلن ديان أن بمقدور الجيش احتلال كامل الضفة الغربية وشبه جزيرة سيناء وحتى الجولان في الجبهة الشمالية.

ويمكن بفضل هذه المحاضر الاستدلال على حالة النشوة الإسرائيلية، منذ اليوم الثاني للحرب والتي وصلت ذروتها في الرابع عشر من يونيو، بإعلان وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك، أبا إيبان، أنه "لم يتحقق في تاريخ الإنسانية من قبل نجاح دعائي إعلامي كنجاح الدعاية الإسرائيلية في الشهر الأخير، أن تتوسع إسرائيل بهذا القدر في ما يصفق العالم لها".
وشكّل تصريح أبا إيبان نقطة تحوّل أيضاً في سياق التفكير والطموحات الإسرائيلية، بعد الانتقال من حالة الخوف من سقوط الدولة وفشلها في الدفاع عن نفسها، كما عكست ذلك تقديرات رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، أهرون يريف، في الجلسة الحاسمة في 4 يونيو، إلى حالة ترف مناقشة مصير الأراضي التي تم احتلالها، وهل يجب إعادتها، ومتى، وما الذي يمكن الاحتفاظ به منها، وعدم الانسحاب. كما بدأ الاحتلال بطرح فكرة وتخوّفات ضياع المشروع الصهيوني كله في حال تم الضم الكامل للضفة الغربية على سكانها بما يهدد أغلبية يهودية، وزرع بذور مخطط تهويد القدس كلها، وبرامج لتهجير سكانها.

وفي ما كان وزراء من حزبي "مفدال" و"مباي"، قد أعربوا قبل بدء العدوان عن تخوّفهم من تبعات وتداعيات احتلال القدس، خوفاً من ردة الفعل في العالم الإسلامي والمسيحي، مثل وزير الأديان من حزب "مفدال"، زيرح فير هافتيج، الذي نصح بأن "نحدد لأنفسنا حدوداً لنطاق العمليات"، فقد أعلن موشيه ديان بعد الحرب مباشرة، وفي جلسة 14 يونيو أن "مصير القدس وحكم القدس لا يختلف عن حكم مدينة الناصرة". ويكون بذلك صاحب الحسم عملياً في عزل مصير القدس واستثنائها من أي عملية تفاوضية مستقبلية مع الأردن كشرط لإبرام اتفاقية سلام تقوم على تحديد كون نهر الأردن الحدود الرسمية بين الأردن وإسرائيل.

من هذه النقطة انتقل النقاش في جلسة اللجنة الأمنية للحكومة الإسرائيلية، إلى مسار آخر كلياً، في كيفية ضمان بقاء الشطر الشرقي للقدس المحتل منذ أسبوع فقط، تحت سيادة إسرائيل، مع ضمان أغلبية يهودية في داخل أسوار البلدة القديمة وكيف يجب تنفيذ ذلك، وترحيل أهلها وطردهم منها. ووفقاً للمحاضر التي تم نشرها، فقد دعا وزير الداخلية الإسرائيلي حينها، حاييم شابيرا، إلى إخلاء البلدة القديمة من أهلها العرب، بحجة أنهم يقطنون في بيوت كان يقطنها اليهود قبل حرب 48 وتم طردهم منها. وقال شابيرا: "لا أعتقد أن علينا طردهم، ولكن يمكن تنفيذ ذلك بشكل تدريجي وليس دفعة واحدة. علينا أن نبدأ البناء هناك وتشييد المباني والكنس اليهودية، وأن نقول للعرب إن أعمال البناء قد تمس البيوت التي تسكنونها، فإذا عملنا هناك مستخدمين الجرافات والحفارات الثقيلة ومثل هذه الأدوات، فإنه من أجل صحتهم نقترح عليهم الانتقال".

أما موشيه ديان فحاول تصوير عملية التهجير والطرد بأنها لن تفضي إلى رميهم في الشارع، قائلاً: "سننقلهم للعيش في بيوت من بيت لحم في الجنوب وحتى رام الله، ستأتي الجرافات من أجل تنظيف المنطقة، ويحدث مثل هذا في مناطق أخرى، عندما يطلب السكان تنظيف الشوارع (المقصود من الأنقاض والركام الذي خلّفه القصف)". وكان الوزير يغئال ألون نفسه قد قال عشية احتلال القدس، في السادس من يونيو خلال جلسة اللجنة الوزارية لشؤون الأمن: "كنت سأكون مسروراً إذا هرب سكان البلدة القديمة منها".


لكن هذه الأمنيات لم تتحقق، إذ رفض سكان القدس، كما يُستدل من المحاضر، مغادرة البلدة القديمة وباقي أجزاء المدينة، حتى عندما حاول أول حاكم عسكري إسرائيلي للمدينة، الجنرال حاييم هرتسوغ (أصبح لاحقاً وزيراً ورئيساً للدولة)، وضع حافلات تحت تصرف السكان لمن يرغب منهم بالتوجّه إلى عمّان. وقام الاحتلال بعد الحرب بفترة قصيرة، باقتحام حي المغاربة، (المقابل لحائط البراق) وإمهال سكانه ساعات محدودة لإخلاء بيوتهم، قبل تفجيرها وتسوية الأرض وجعلها ساحة للصلاة لليهود، ومن ثم بعد سنوات إقامة معاهد دينية يهودية مقابل حائط البراق.

في المقابل، تُبيّن محاضر جلسات اللجنة الوزارية للشؤون الأمنية في الحكومة الإسرائيلية، أن حكومة الاحتلال كانت قد استشرفت منذ اللحظات الأولى للاحتلال أن ضم الضفة الغربية والإبقاء على أراضيها تحت الاحتلال، سيعني في نهاية المطاف إذا تم ضمها رسمياً، بدء تحوّل إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية، بما يهدد المشروع الصهيوني كله، وفق تحذيرات الوزير في الحكومة يعقوف شابيرا في جلسة 15 يونيو. لكن الجلسة تُبيّن أن حكومة الاحتلال قررت في هذا السياق القبول بالخطة السياسية لموشيه ديان، بإدارة الأراضي المحتلة من خلال حكم عسكري لا يمنح السكان حقوقاً مدنية (أي عملياً ترسيخ الحكم العسكري لحالة أبرتهايد، تحت ستار القوانين العسكرية)، مع بدء محاولة إيجاد قيادات فلسطينية محلية تتوافق مع سلطة الاحتلال، وتعلن أن نشاطها ليس مفروضاً بل باتفاق مع إسرائيل وليس نتيجة احتلال إسرائيل لهم، على أمل أن يعيشوا بهدوء تحت الحكم العسكري ومن دون حق الاقتراع للكنيست أو إمكانية دخول إسرائيل.

وتُظهر محاضر جلسة الحكومة الإسرائيلية في 15 يونيو من ذاك العام، أن موضوع تأييد حل الدولتين طُرح على الحكومة، في ظل مخاوف أشكول وعدد من الوزراء من الحالة التي تجد إسرائيل فيها نفسها تسيطر على عدد أكبر مما كانت تتوقعه من العرب. فيما قال الوزير شابيرا في الجلسة إنه "مع الزيادة الطبيعية العالية عندهم سيصل عددهم خلال أربع سنوات إلى نحو مليون شخص، وسيكون هذا خطيراً وقابلاً للانفجار، ولن نستطيع في ظل العالم المتقدّم أن نعيش مع مستويين من الحياة: مستوى معيشة خاص باليهود في إسرائيل ومستوى معيشة للآخرين".
وانضم أبا إيبان إلى النمط نفسه من التفكير والتحذير من إشكالية السيطرة على شعب آخر مع تمييز في التعامل بوضعه لا يمكن الدفاع عنه، كما ذهب وزير التعليم زلمان أران إلى القول إنه "من الوهم الاعتقاد أن يكون بمقدورنا أن نحكم عرباً من دون منحهم الحقوق، سيكون هذا سبباً لمصائب للأجيال المقبلة، وإذا أخذنا بعين الاعتبار المسؤوليات التي سيكون علينا الاضطلاع بها في الضفة الغربية، فإننا سنختنق فيها".

أما زعيم "الليكود" التاريخي، مناحيم بيغن، الذي كان قد انضم لحكومة الوحدة الوطنية التي تشكّلت قبل الحرب بأيام معدودة، فاقترح منح الفلسطينيين في الضفة الغربية مكانة "مقيمين" لمدة سبع سنوات من دون حق التصويت في الكنيست، بينما تقوم الحكومة بتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتشجيع الولادة عند اليهود.
وفي جلسة اللجنة الوزارية للشؤون الأمنية في 19 يونيو، عاد موضوع الترحيل والتهجير ليُطرح من جديد، في سياق ترحيل الفلسطينيين من الضفة الغربية للدول المجاورة، مقابل الإجماع الذي ساد في الحكومة على إبقاء غزة كاملة تحت السيطرة الإسرائيلية. ووفقاً للمحاضر الإسرائيلية، فقد دعا وزير التجارة، زئيف شارف، إلى وجوب التمييز بين المنشود وبين الموجود، موضحاً أن "ما ننشده وضع كالذي ساد في العام 48، عندما هرب العرب وجاء مهاجرون يهود وحلوا مكانهم، وتمكّنّا من توطينهم في مدن وقرى، واليوم لا يوجد وضع كهذا، إذ لم يهرب العرب ولم يأت المهاجرون إلينا". وعليه اقترح شارف التوجّه للدول العربية والطلب منها استيعاب اللاجئين العرب من المناطق التي احتلتها إسرائيل. وقال شارف: "على الرغم من أن البرازيل دولة كاثوليكية، فإنها تستوعب عشرات آلاف اليابانيين من أبناء ديانة الشينتو، فلماذا لا يستوعبون عندهم العرب أيضاً؟". أما أشكول فقال: "لو كان الأمر متعلقاً بنا لرحّلنا جميع العرب إلى البرازيل". أما يغئال ألون، الذي كان أعرب عن أمنياته لو هرب سكان القدس من المدينة، فأضاف: "أو أن يذهب قسم لكندا وأستراليا، ونوطّن قسماً منهم في سيناء".
وعرض أشكول خلال الجلسة فكرة "لتبادل السكان"، موضحاً أنه "مثلما استوعبت إسرائيل مئات آلاف اليهود من الدول العربية، فعلى الدول العربية أن تستوعب العرب من المناطق التي احتلتها إسرائيل". وتُبيّن الوثائق أن وزيراً واحداً فقط عارض خطاب الترحيل، هو الوزير يعقوب شمشون شبيرا، عندما قال: "إنهم سكان البلاد وأنت تحكم البلاد اليوم، لا يوجد سبب لإخراج عرب وُلدوا هنا ونقلهم إلى العراق"، فرد عليه أشكول: "لن تكون هذه كارثة كبيرة... لم نأت إلى هنا سراً، قلنا إن أرض إسرائيل لنا".

المساهمون