هذه الحرب الباردة في الخليج العربي

هذه الحرب الباردة في الخليج العربي

27 مارس 2018
+ الخط -
إلى عهد قريب، ظلّ الخليج العربي كتلة متراصّة واحدة، وكيانًا وازنًا في المشهد الدولي، تربط بين شعوبه حقائق الجغرافيا، ووشائج القرابة والمصاهرة، وتماثل العادات والتقاليد، ووحدة الدّين واللغة، والانتماء القومي والمصير المشترك. وتصل الخليجيين من زمن بعيد روابط ثقافية متينة وعلاقات اقتصادية قويّة، وخيارات سياسية متقاربة، ومصالح استراتيجية عديدة، ومعاهدات دفاع مشترك لمقاومة الإرهاب والتصدّي للمخاطر الخارجية، وتبلور ذلك في إطار مجلس التعاون الخليجي ودرع الجزيرة والتحالف الإسلامي في مواجهة الإرهاب. وكانت لدول الخليج العربي، على الرغم من حداثة تأسيسها، أدوار مهمّة، ولو بشكل متفاوت، في دعم القضيّة الفلسطينية، وإسناد بلدان عربية في المشرق والمغرب، والمساهمة في إنمائها والمحافظة على وحدتها الترابية، وإعادة إعمارها بعد الاستعمار والحروب الأهلية والجوائح الطبيعية، ووقفت دول الخليج العربي صفّا واحدا في مواجهة الغزو العراقي للكويت. وظلّت عقودا جدار صدّ في مواجهة المدّ الشيعي والتوسّع الفارسي/ الإيراني في المنطقة.
لكنّ ما حدث، منذ يونيو/ حزيران الماضي، قلب الموازين، وأفسد انسجام الخليجيين في المحافل الدولية، وأربك وحدة صفّهم ومسيرة التعاون بينهم. فمحاصرة الإمارات والبحرين والسعودية، بالإضافة إلى مصر، قطر برّا وجوّا، واتهامها بدعم الإرهاب واستقراب إيران، وهو ما نفته الدوحة بشدّة، يُعدّ حدثا غير مسبوق في تاريخ المنطقة، ومنعرجا خطيرا في مسار العلاقات البينية الخليجيّة. ولم يقف الأمر عند سحب التمثيليات الدبلوماسيّة، وإغلاق المنافذ
البرّية والجوّية، بل أقدمت تلك الدول على ترحيل قطريين، ومنعت مواطنيها من التعاطف مع الدوحة، وحثّتهم على عدم السفر إليها أو الإقامة فيها. وبلغ التصعيد المتبادل مدىً آخر بانخراط أطراف الخصومة في أتون حربٍ باردة تستنزف الخليجيين قبل غيرهم، وتُرهق مواطني البيت الخليجي في مقام أوّل.
فمنذ الأيّام الأولى للأزمة، نشطت الأذرع الإعلامية والدبلوماسية وشركات العلاقات العامّة التابعة للدول المحاصرة في شنّ حملة دعائية يوميّة شعواء، بغاية عزل دولة قطر عربيا ودوليا، وتحميلها مسؤولية رعاية التطرّف والإرهاب في المنطقة. وبدت القوّة الناعمة القريبة من قطر مشدوهة في البداية لهول الهجمة الإعلامية المُغرضة المفاجئة. لكنّها ما لبثت أن استوعبت الصدمة، واستنفرت بدورها منابرها التعبيرية ووسائلها الإعلامية، لشنّ هجمة دعائية مضادّة. فوجد المتلقّي العربي عموما، والخليجي خصوصا، نفسه، على مدى شهور من اندلاع الأزمة الخليجية، أمام حربٍ دعائية ضروس بين الجانبين، تتوالد فيها الاتّهامات والتسريبات والأحكام المعيارية والنعوت المتبادلة بالتآمر والعمالة، وما إلى ذلك من خطاب التهوين والتخوين، والقذف والشتيمة. ولم يقف التجييش الإعلامي عند نقد السياسات والتشكيك في نوايا الجانبين، بل تجاوز ذلك المدى إلى اختراع معارضات، وتأليب قبائل وملل. وفي خطوةٍ غير مسبوقة، ظهرت موجة الخوض في الأعراض والقدح في الأسر الحاكمة، وهو مستجَدّ (حدث) على غير مثال في تاريخ العلاقات البينية الخليجية. وتشرف على الواجهة الإعلامية للحرب الباردة المشهودة في الخليج العربي قنوات "احترافية"، وجيوش إلكترونية مدجّجة بقوّة المال والتقانة الرقمية، وبشتّى أنواع الشتيمة ووسائل صناعة الإشاعة، وتستنزف كثيرا من الوقت والطاقة والجهد وملايين الدولارات. ومع أنّ حرب الشاشات والمواقع الإلكترونية ساهمت في الكشف عن جوانب مسكوت عنها في الخليج العربي، خصوصا ما تعلّق بملفّات انتهاكات حقوق الإنسان، وشيوع الفساد، ومشاريع الجوسسة والصراع على النفوذ بين دول الخليج العربي، فإنّ منسوب الكراهية بدا غالبا، والحملات الدعائية المتبادلة زادت من توتير الأجواء وتعميق الفرقة، وأحدثت شرخا اجتماعيا وأخلاقيا، له تداعياته السلبية على الانتظام الأهلي الخليجي.
وتجلّت معالم الحرب الباردة بظهور تحالفاتٍ ومحاور ناتجة عن الأزمة الخليجية، بعضها مؤيّد لقطر، وغيرها مناصر لدول الحصار. وازدهرت، في الأثناء، سوق السلاح، وتسابق الجميع على التحشيد واستنفار الجيوش، وتنظيم المناورات العسكرية، وإبرام صفقات تسلّح مكلفةٍ، على نحو أخبر بتزايد هواجس التوجّس ومظاهر التوتّر في المنطقة. والواقع أنّ الأزمة الحالية في الخليج أشبه بمعركةٍ صفريةٍ، وحالة عبثية تراجيدية، تستنزف الجميع، ولا تؤدّي إلى انتصار طرفٍ على حساب آخر. فمشروع حصار قطر لم ينجح عمليّا في تحقيق أغراضه. وتمكّن البلد، في وقت قياسي، من إحداث خطوط إمداد اقتصادية ومنافذ مبادلات تجارية جديدة مع الهند وباكستان وتركيا وإيران، وعزّز علاقاته بحلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد
الأوروبّي. وفي المقابل، خسر مواطنون عرب، أردنيون ولبنانيون وإماراتيون وسعوديون، معاملاتهم التجارية واستثماراتهم في الدوحة، وتعطّلت الحياة الأسرية والمهنية والعلمية لآخرين من قطر وخارجها بسبب الحصار. وبدا واضحا أنّ الدولة العربية الوحيدة المستفيدة نسبيّا من الأزمة الخليجية هي مصر التي ما انفكّت قنواتها الإعلامية والدبلوماسية تغذّي أسباب الاصطفاف والاستقطاب في المنطقة، لتضمن تدفّق مزيد من الفرز الخليجي لدعم نظام العسكر.
ومن المفارقات أنّ جامعة الدول العربية التي طالما صدّعت الرّؤوس بالحديث عن وحدة الصّف العربي، وتطوير العمل المشترك، لا تبذل جهدا يذكر لفكّ مغالق الأزمة الخليجية، وكأنّ الوضع لا يعاني من تبعاته مواطنون عرب، أو هو يقع في كوكب آخر، ولا يعنيها من قريب أو بعيد. والجامعة بلزومها هذا الموقف غير المسؤول تناقض مبادئها التأسيسية القائلة بضرورة المحافظة على اللحمة العربية، وفضّ الخلافات البينيّة العربية. وتستنفد بذلك ما تبقّى لها من صدقيّةٍ في الشارع العربي. وأحرى بهذه المؤسّسة أن تغتنم انعقاد القمّة العربية المقبلة في الرّياض، لتقوم بدورها في تقريب الأشقّاء/ الفرقاء، وتستثمر في جهود الوساطة الكويتية، لإطفاء فتيل التوتّر، والتوصّل إلى حلّ مستدام للأزمة الخليجية، يخدم الصّالح العربي ويرفد الجهود الدولية الرامية إلى مكافحة الإرهاب والتطرّف والحدّ من التمدّد الإيراني.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.