أن تكون عروبياً كإبراهيم المديميغ

أن تكون عروبياً كإبراهيم المديميغ

04 ديسمبر 2018

إبراهيم المديميغ.. مناضل حقوقي سعودي سجين

+ الخط -
تعود معرفتي بالمناضل الحقوقي الوطني الكبير، إبراهيم المديميغ، وهو أحد شخصيات التيار والوعي العروبي في المملكة العربية السعودية، إلى مرحلة الطفولة، فأصل العلاقة كان بينه وبين أخي لأمي، إبراهيم بن الشيخ عبد الله المبارك، حيث كان المديميغ الصديق الخاص لأخي أبو لؤي، خلال بعثتهم الجامعية في بيروت، والتي جمعت إبراهيم المبارك، وابن عمه خليفة نجل الشيخ أحمد المبارك، رئيس القضاء الشرعي ومستشار الشيخ زايد، والذي صعد في السلك الدبلوماسي الإماراتي، وكان يحمل فكره العروبي، واغتيل وهو سفير بلاده في باريس، بقرار المخابرات العراقية، التي أرادت أن توجه رسالة تهديد إلى الإمارات، بعد تصاعد السوق السري لإيران، من خلال البازار المشترك بين دبي وطهران، وذهب ضحية ذلك خليفة أبو خلدون، كعادة الاستبداد الأعمى في عملية غادرة مجرمة، نفذتها مجموعة أبو نضال لصالح بغداد.
كان الثلاثة طلبة في جامعة بيروت العربية، وكان حينها الفكر القومي يصعد، وكنتُ الأخ الأصغر لأبي لؤي، أمد الله في عمره، وأنزل عليه الشفاء، وكان يحرص، مع صعود فكرتي الإسلامية، أن يُصحح موقفي من الفكرة العروبية، والذي ظل يتجاوب معه تدرجاً خلال عقود، لان أخي الأكبر كان متصلاً ومتعبِداً بالفكرة الإسلامية الروحية، لكن الفارق الكبير إيمانه بالعدالة فوق الأيديولوجيا، وأنه يزاول إسلاميته في أخلاقه كأجلّ ما يتصوّر، مع الجميع بكل عرقياتهم، وهو النموذج الذي لم نكن نراه في آخرين من التيار القومي والديني.
وفي غاية الذوق والأدب يُهذب مصطلحاته، ويُحسّن تعامله مع الخدم، ويُحسن إليهم ويستخدم عباراتٍ غاية في اللطف، ويرفض كلياً أي وصفٍ عنصريٍّ في المجتمع المحلي للخليج، أو 
الذي يوجّه للأشقاء العرب، مع التعامل السلوكي الراقي مع غير المسلمين، فكنت أراه مدرسة نموذجية، خصوصا وهو يسأل عن أحكام الفقه، من دون أن يتخلّى عن فكرته العروبية. هنا كان الرفاق، في رحلته الجامعية لهم، بصمة في حياة أقاربه، فجاء إبراهيم المديميغ، ليتصل بهم أكثر وأكثر، وخصوصا بعد اغتيال خليفة، ثالث الثلاثة في رحلة جامعة بيروت التي دعم تأسيسها جمال عبد الناصر، في ظل ما يواجهه الطلبة اللبنانيون والعرب من حرمانٍ لا يساعدهم على الدخول في الجامعة الأميركية.
انتقل كل منهم بعد تخرجه بفكره إلى وطنه الجديد، وكان إبراهيم المبارك وخليفة ابن عمه ضمن قسم الأسرة الذي استقر بمواطنته في دولة الإمارات. أما إبراهيم المديميغ، فكان ضمن الفريق العروبي الذي عاد إلى السعودية، وكان هناك تحوّل نوعي بعد ذلك في موقف القوميين العرب واليسار القومي السعودي، بأن يدخلوا في جهاز الدولة، ويحدّثوها مدنياً، وأن الصراع مع النظام، وعلاقته القديمة المستمرة بمصالح الأميركيين المطلقة، لن تفيد هذا الشعب، ولا دورة التطور المدني.
وبالفعل شكلت مشاركة العروبيين في عجلة التحديث التي كانت تحتاج لها الدولة السعودية حاجة ماسّة في ذلك الزمن، دوراً حيويا، وانخرطت في مسيرتها شخصياتٌ رئيسية منهم، مثل عبدالله الطريقي وغازي القصيبي، وفريق آخر ظل متمسّكاً باستقلاله عن المناصب والتداخل مع شبكة الأسرة الحاكمة، مع تقديم كل جهد مدني ممكن لدعم التطور القانوني وحقوق الشعب، وكان إبراهيم المديميغ من هذا الفريق، الحذر جداً من إخضاع كرامته الشخصية، لطقوس الأسرة الحاكمة.
ظل إبراهيم المديميغ علامة بارزة في تطلعي الاجتماعي، فما أن تأتي مناسبةٌ سعيدةٌ لرفاقه في الإحساء، أو مريض يُكلم، أو يُفقد عزيز، إلّا أصبح أبو محمد بيننا، كان المديميغ بستاناً من ود، ومدرسة ذوقية، ومعهدا أخلاقيا لا يُجارى، وكان مبادراً كما صاحبه أبو لؤي إلى الصلاة في وقتها، وإلى حُسن التعبد لله في أخلاقه مع الناس، وفي كفاحه الحقوقي الصامت للشعب.
غير أن إبراهيم المديميغ كان، وهو يواصل الإحسائيين يدرك مسألةً أخرى في هذه العلاقة العروبية، وهي مشاعر الغبن والامتهان الممنهج الذي مارسته الدولة السعودية على الأحساء (تسمى الشرقية حالياً)، بعد أن ضُخمت الأنا النجدية ضد الأحساء، لسبب سياسي عميق للنظام، على الرغم من أنهما يمثلان اتحادا اجتماعيا تاريخيا، وحركة المصاهرة والتوزع القبلي والديمغرافي تجمعهما، ولكن أنهكتهم البنية المذهبية الوهابية والعنصرية الاجتماعية، التي رُوجت بشدة، وهي الثقافة ذاتها التي فُضحت في أزمة الخليج، فلذلك كان المديميغ يسعى إلى التواصل بين المجتمعين، في ظل دفع النظام إلى عزل الأحساء وتهشيم شخصيتها، لأسبابٍ سياسيةٍ بتوثيقات تاريخية، يصعب تفصيلها هنا.
ظل المديميغ يراقب الحركة الحقوقية، لكن عمله في هيئة الخبراء في مجلس الوزراء السعودي، 
ثم المحاماة، جعله يتعامل بحذر، وخصوصا حين اضطراب المواجهات بين التيارات السعودية، فقد كان يعرف دوافعها ومن يديرها، وكان رافضاً التوظيف الديني للصراع الأيديولوجي. وكانت لديه قناعةٌ بأن موسم الصحوة كان مشروعاً سياسيا، يقوم على أيديولوجية توظيف، لا تنتمي للإسلام الذي آمن به. وفي لحظة الاستقواء المطلق على الإصلاحيين، وخصوصا قائد الحركة الحقوقية الكبرى في المملكة السعودية، عبد الله الحامد، عزّت كثيراً مواقف المحامين الذين كان يضطرب بعضهم، لمجرد ذكر أن قضيتك سياسية، وكان بعضهم يفضّل ألا يعرّض مصالحه للخطر.
في هذه الفترة، انبرى المديميغ لمساندة كل المضطهدين الذي يأوون إليه، أو يأتي أهلهم إليه، فيقبل وكالتهم للدفاع عنهم، من دون أي دخل مادي مكافئ. وكان يرجو ويؤمل، وهو يضبط خطابه باعتدال بالغ، أن يقدّر النظام وجود شخصية وطنية في صفوف التكنوقراط غير المحسوب على التيارات، حتى يكون ذلك مدخلاً لإغلاق ملفات التوتر لصالحها، غير أن النبيل الحر، والعروبي الشهم، إبراهيم المديميغ، دفع ضريبة المناضلين، وزُجّ في السجن، في كوكبة من العروبيين الكبار، منهم عزيزة اليوسف. ويا له من زمن، يا أبا محمد ويا أم طارق، أن يَصبّ الرعاع على وطنيتكم حبر خيانتهم، فتباً لهم ولما سكبوه.