تونس.. علقم الدستور والتدرّب على الديموقراطية

تونس.. علقم الدستور والتدرّب على الديموقراطية

11 نوفمبر 2018

السبسي والشاهد.. تنازع إلى اين وإلى متى؟ (25/6/2018/فرانس برس)

+ الخط -
في ندوته الصحفية التي عقدها على عجل يوم الخميس الماضي، وهي الأولى له منذ توليه رئاسة الجمهورية التونسية سنة 2014، يكون الباجي قائد السبسي قد أقر بضعفه وعجزه في معركةٍ ظلت صامتةً، على الرغم من أن صخبها قد انتهى إلى مسامع التونسيين صدى محيراً.
ربما لم يدُر في خلد الرئيس السبسي، وهو يعيّن الشاب يوسف الشاهد رئيس حكومة سنة 2015، خلفا للحبيب الصيد، أن يتمرّد عليه "ابنه" الذي اصطفاه لخصالٍ عديدةٍ، أعاد التذكير بها في الندوة الصحفية نفسها. كان خطاب الرئيس يمتحُ من ثقافةٍ سياسيةٍ، قُدّت مفرداتُها من قيم تقليدية، حيث تعدّدت استشهاداته بأبياتٍ من الشعر الجاهلي وأمثالٍ ومُلح، ما يفيد بأنها تمجّد قيم الطاعة والوفاء والبر. ولذلك، لم يُخف استياءه الذي عبّر عنه بشكل صريح. فقد كرّر، في أكثر من مناسبة، عبارات الاستياء وعدم الرضاء والخيبة.
لم يستطع رئيس الجمهورية أن يستسيغ كيف لرئيس حكومة "أتى به"، وأغدق عليه من نعم الوجاهة وجاه المنصب، أن يتنطع عليه سياسيا، ويحتمي بالدستور الذي يمنحه صلاحياتٍ واسعةً، تشل الرئاسة أحيانا، وهو الذي كان صاحب فضل عليه، عندما انتشله من دائرة المغمورين سياسياً.

المواجهة التي وضعت رئاسة الجمهورية وجهاً لوجه مع رئاسة الحكومة، ووزعت النخب السياسية شيعاً متفرقة في حالة استقطاب حادٍّ بين معسكرين؛ القصبة (مقر رئاسة الحكومة) وقرطاج (مقر رئاسة الجمهورية)، عميقة ومعبّرة، بقطع النظر عن الحجج الأخلاقية والسياسية المعتمدة في تزكية موقفٍ على آخر، لأنها وضعت، بشكل أو بآخر، ثقافتين مختلفتين تشقّان مرحلة الانتقال الديموقراطي، ثقافة سياسية تقليدية، تتداخل فيها قيم الأبوة مع الرئاسة، وأخرى دستورية جديدة بدأت تتشكل منذ الثورة. لا يفيد هذا التداخل تقابلا مطلقا بين ثقافتين ومشروعين، بل يفيد أحيانا رهاناتٍ واستراتيجياتٍ توظّف فيها هاتان الثقافتان في سياقات النزاعات تلك.
الرئيس الذي أنقذ البلاد، أو هكذا يتصوّر نفسه، أو يصوّره بعضهم، حينما وضع حدا لهيمنة حركة النهضة وسيطرتها على المشهد السياسي، لما أوجد حزب نداء تونس بديلا عنها، والرئيس الذي جنّب البلاد حربا أهلية، حينما عقد توافقا في باريس مع غريمه آنذاك، راشد الغنوشي، يجد نفسه عاجزا عن إنقاذ نفسه، أو هكذا يُخيّل له.
منذ أشهر، يبدو أن رئيس الحكومة، الذي لم يتجاوز سنه الثالثة والأربعين عاما، قد حَسَم أمره، وأراد أن يخط مسلكا لنفسه خارج مظلة أبيه الروحي رئيس الجمهورية، فلن يعيش الرجل في جلباب أبيه. هكذا قرّر، وقد زيّنت له نفسه أن يقود معركةً سياسيةً تحت لافتة مثيرة "لا لابن الرئيس"، مستغلا تبرّم المزاج الشعبي بإمبراطوريات المصاهرة والتوريث التي اكتوى بهما. على الرغم من انفضاض الناس من حول الانتقال إلى الديموقراطية، وانحسار ذلك في دائرة نخب سياسية محترفة، تتصيّد التفاصيل، وتراهن في اليوم الواحد ألف رهان، وتصنع الخيول الرابحة والخاسرة، قد يكون الرئيس من عَناهم، حينما استخدم، لأول مرة في قاموسه، "حكومة الظل"، على الرغم من ذلك، فإن الندوة الصحفية للرئيس السبسي شكّلت حدثا وطنيا، وهي التي سكبت على مناخ الحيرة شعورا بوهن الأب لدى فئاتٍ واسعة.

شعر الرئيس بأن الجميع خذلوه في الأمتار الأخيرة من مشواره السياسي: حزبه الذي تفكّك وتلاشى، أو يكاد، حتى أن أمانته العامة بيعت في صفقةٍ مريبةٍ إلى رئيس حزبٍ آخر، جاء مسعفا بماله المشبوه، وعينه على نجل الرئيس الذي ليس له من السياسة سوى أنه "ابن أبيه". خذلته أيضا حركة النهضة التي لعق السم من أجلها، حتى نعت خصومُه توافقَه معها بخيانة أمانةٍ، في إشارةٍ إلى برنامجه الانتخابي الذي صوّت له الناس على قاعدة استبعاد "النهضة". ولربما كان المغالون يطمعون في أكثر من ذلك، تحت تحرّشٍ إقليمي، محوهم من المشهد السياسي، ولو كان ذلك بالعودة إلى الوراء، واستدعاء ترسانة من المحاكمات والسجن.. إلخ. وأخيرا، خذله ابنه الروحي، حين ذكّره بأن في البلاد دستورا، صاغته الثورة، وهو دستورٌ لا يمنحه ما يشتهي من صلاحياتٍ واسعة، بل الحد الأدنى المتاح لرئيسٍ في العالم الثالث: الاعتراض على وزيرٍ ما.. إنها صلاحيات "القصبة" التي استمات يوسف الشاهد في الدفاع عنها، حتى لو عدّه بعضهم انقلابا، وعقوقا بالمعنى الأخلاقي.
كان حجم المرارة باديا على خطاب الرئيس في ندوته الصحفية، ولكن طينة الرجل، وثقافته التي نشأ عليها، وصورته التي يحملها عن نفسه، أو على الأقل التي كان يريد أن يصنعها لنفسه: الزعيم السياسي الذي يشبه، إلى حد التطابق مع بورقيبة، تجعلنا نترقب ألا يستسلم بكل هذه السهولة، حتى ولو أقرّ بأنه مؤتمن على الدستور، وبأن التحوير (التعديل) الوزاري مقرّ حسمه قبة البرلمان، وليس قصر قرطاج.
الديموقراطية درس مؤلم أحيانا، وهي تدرّبٌ مضنٍ وموجع على التنازل. ولم يستطع الرئيس الباجي قائد السبسي إخفاء مشاعر الألم والخيبة، وهي ناجمةٌ عن سيرة ذاتية، كما أشير سابقا، وتنشئة سياسية وثقافية، وكثير من ذاتٍ متورّمة، تطلب زعامةً في زمن شحيح، كفّ عن صنع الزعامات، فضلا عما يعتقد أنها إساءات له، اختزلته في ساعي بريد. التفاصيل الذاتية في مثل هذه المواقف مشوّقة ومغرية. ولكن أفضل ما كسبه التونسيون في هذا الصراع هو فكرة الدستور والاحتكام إليه، حتى في غياب محكمةٍ دستورية. هذه ثقافةٌ سياسيةٌ جديدةٌ تهون علينا ما تبعثر من خطواتنا في هذا الانتقال الديموقراطي المرتبك أصلا.
ثمّة ما يوحي من سير رؤساء تونس، باستثناء المنصف المرزوقي، بأن قصر قرطاج لا يؤمّن نهايات سعيدة للرؤساء، حتى ولو كانوا عظماء أو مُنقذين، فما بالك بغير العظماء والمنقذين.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.