السلطة الأبدية تفرض الطاعة أو المقاومة

16 أكتوبر 2018
+ الخط -
يدرك أي سوري يعتبر نفسه موالياً لسلطة الأسد اليوم، أو في أي يوم سابق، أنه يوالي سلطة وليس نهجاً أو خطة أو خياراً سياسياً تمثله هذه السلطة، فهو يدرك جيداً أنه لا يستطيع أن يكون معارضاً لهذه السلطة، إذا ما غيرت نهجها في لحظة معينة، إلى نهج قد يراه خاطئاً أو حتى مدمراً، ولا يستطيع أن يتمايز سياسياً عن السلطة بأي مقدار، من دون أن يغامر بانهيار حياته إلى حدود الجحيم، بصرف النظر عن كل تاريخه "الموالي" السابق. الموالاة إذن هي إما تسليم من دون نقد (حال الغالبية الشعبية الموالية)، أو قبول من دون قناعة (حال الموالين المثقفين)، وفي الحالين يشكل الخوف أساس الموالاة لهذه السلطة.
على هذه الحال، تكون الموالاة هي الطاعة، والطاعة هي القبول بما لا تقتنع به، لأن الطاعة القائمة على القناعة ليست حقيقية، فأنت في هذه الحالة تطيع رؤيتك للأمور ولا تطيع السلطة، هذه طاعة داخلية، أما الطاعة الحقيقية فهي مفروضة من الخارج، هي خضوع واع لسلطة، وهذه الطاعة تسهل كثيراً على السلطة مهمة إقناع المحكومين للحصول على ولائهم. على أن الجمهور الواسع يخضع للسلطة من دون استعداد نقدي، وكنوع من العادة، كما لو أن السلطة قوة طبيعية لا تستطيع ردّها، ولا معنى لمعارضتها.
ويدرك أي سوري موال اليوم، أو في أي يوم سابق، أن السلطة التي يواليها تنظر إلى نفسها على أنها "أبدية"، أي أنه يدرك أن السلطة السياسية (محور الصراع السياسي) تقع خارج 
مجال الصراع السياسي السلمي بين موالاة ومعارضة، فهي معطى "أبدي". لا رجاء لمعارضةٍ في أن تكسب مساحة أكبر في الوعي العام، وأن تمارس بفعل ذلك تأثيراً على السلطة من خارج السلطة، أو أن تصل ربما إلى السلطة بآليةٍ سلميةٍ ما. لا سبيل مشروعاً إلى تغيير السلطة الأبدية التي تغلق بدأب كل الأبواب دون ذلك. عليك أن تواليها، كما هي وكيفما كانت سياستها وكيفما تبدّلت، فتسلم من عدائها المباشر، أو أن تعارضها فتصبح عدواً ليس للسلطة السياسية فقط، بل للدولة ككل. أو بعبارة أصح، تصبح الدولة كلها، بكل إمكاناتها الأمنية والاقتصادية والقانوية.. إلخ، معادية لك إذا ما تحولت يوماً عن الولاء للسلطة التي تستعمر الدولة وتستوطنها.
في منظور السلطات الأبدية التي تشكل سلطة الأسد نموذجاً مدرسياً عنها، صوابية الخط أو القرار السياسي ليست مستقلة عن الجهة التي يصدر عنها الخط أو القرار، لا يكون الولاء للخط السياسي أو القرار مستقلاً عن الجهة التي تتبناه أو تصدره، الولاء للخط أو للسياسة ناقص، لأنه ينطوي على إمكانية التحول عن الولاء إذا ما تغير الخط أو السياسة. الولاء الحقيقي أو الكامل يكون للسلطة الأبدية. بمعنى أن ما يصدر عن السلطة هو الصواب، أو قل لا يصدر عن السلطة سوى الصواب. لا يوجد مقياس خارجي لقياس صوابية نهج أو قرارات السلطة الأبدية، ولا يخضع نهجها أو قراراتها لاختبار الزمن، ولا تنقض صحتها ما يترتب عليها من نتائج. السلطة الأبدية هي منبع الصوابية (أي هي منبع الوطنية، وخدمة مصالح الشعب، ومصالح الأمة، والتحرير، وهي قلعة معاداة الإمبريالية.. إلخ). مقياس الصواب السياسي هو مصدره. ينتج عن هذا أن ما يصدر عن "الغير" في الداخل يقع تلقائياً خارج الصواب، وفق منظور السلطة الأبدية. وأي قبول في طرح صادر عن "الغير" يعني القبول بـ"الغير" ومعاداة السلطة، ويضع الشخص في خانة "الأعداء". ولا يقف الأمر عند هذا الحد، إن أي محاولة للاطلاع على ما يطرحه "الغير" تنطوي على تشكيكٍ في صوابية ما تطرحه السلطة الأبدية، وتحيل الشخص تلقائياً إلى خانة "الأعداء" أيضاً. كانت سجون سلطة الأسد الأبدية مليئةً بشبابٍ جريمتهم "قراءة جريدة" حزب معارض.
لا وجود في تصوّرات السلطة الأبدية لمفهوم التنوع السياسي، ولا معنى له. هناك فقط صواب تمثله السلطة وخطأ يمثله "الغير". هناك مصدر للصواب والوطنية.. إلخ، هو (أنا) السلطة الأبدية، ومصدر للانحراف والتخريب والخيانة هو كل (آخر) لا يوالي السلطة الأبدية.
هذه النظرة تعني أن الموالي للسلطة الأسدية ينبغي أن يكون موالياً أبدياً بما يواكب أبدية السلطة. وتعني أنه لا مكان لمعارضة في منظومة المفاهيم الخاصة (البارادايم) بهذه السلطات الأبدية. لا يُفهم من القول المعارض، بحسب هذه السلطات، اقتراحاً سياسياً مختلفاً أو رؤية مختلفة من منظور مصالح مختلفة.. إلخ، فالمعارضة هي ببساطة خروج عن الصواب الذي تفرزه السلطة الأبدية "كما تفرز الكبد الصفراء". كما من طبيعة الكبد أن تفرز الصفراء، كذلك من طبيعة السلطة الأبدية أن تفرز الصواب السياسي.
يسقط، وفق هذا المنظور الحاكم، كل معنى للنقاش أو الحوار أو الجدال مع الآخر الداخلي. نقاش جماعة السلطة الأبدية مع الآخر الداخلي، إن حدث، هو نمط جديد من علم الكلام الذي لا يبحث عن حقيقة، بل يستخدم فنون الكلام لإثبات حقيقته الجاهزة سلفاً، والتي تشكل الحقيقة النهائية، وهذه الحقيقة هي صوابية السلطة الأبدية. وبالقياس، فإن علم السياسة، وفق منطق هذه السلطات وفهمها لذاتها ولعلاقتها بالمجتمع، يتحوّل إلى علم الاحتفاظ بالسلطة وسد الثغرات التي يمكن أن تهب منها رياح التغيير، وبكل الوسائل الممكنة. علم السياسة، على هذا، يتحوّل إلى ما يمكن تسميته علم السلطة.
ما سبق يفسر تراجع سلطة الوريث في سورية عن شعار "الإصلاح والتطوير" الذي تبنته في بداية عهدها (عام 2000)، وسرعان ما عدّلته، بناء على عِلم السلطة، إلى "التحديث والتطوير" لأن كلمة "الإصلاح" تنطوي على معنىً يفيد بأن السلطة الأبدية السابقة "سلطة الأب المورث"، كانت على خطأ أو اعوجاج يحتاج إلى إصلاح، وهذا يتناقض مباشرةً مع "المعصومية" التي هي في صميم فكرة "الأبدية".
معصومية دائمة عن الخطأ، وديمومة لا نهائية، في هذا، كما هو واضح، نوع صريح من 
تقديس السلطة. المنطق الأسدي هذا يصل آلياً إلى أن تعي السلطة ذاتها على أنها تحوز فعلاً الحق بمعاقبة أو إلغاء "العصاة" أو "الكفرة"، (وليس المعارضين)، لأنه لا وجود لفكرة المعارضة في تصورات السلطة الأبدية.
وعي السلطة نفسها على هذه الصورة، يرسم فاصلاً نوعياً بينها وبين الشعب الذي يبدو، والحال هذه، مجرد موضوع هيمنة وحكم. وفي المقابل، سوف تبدو السلطة بالنسبة للشعب موضوع تقديس أو كفر. الشعارات التي واظب "الموالون" على ترديدها، تحمل بوضوح أثر هذا الفارق النوعي المكرس، "تأليه" السلطة في مقابل تفاهة "الشعب" وصغر شأنه. بدءاً من الاستعداد للتضحية (بالروح والدم)، إلى ترديد شعاراتٍ غير معقولة (إلى الأبد) أو (الأسد أو لا أحد)، وكأن الهدف من فرض ترداد هذه الشعارات، على لا معقوليتها، نوع من إذلال الناس، وجعلهم يهتفون هراء عقلياً. وصولاً إلى درجةٍ سفلى في الانحطاط العقلي، ودرجة عليا في الاغترار السلطوي، بالمطالبة بإزاحة الله عن مكانه، لكي يجلس الأسد محله.
على هذا، فإن معارضة "السلطة الأبدية" تكون عملاً أقرب إلى المقاومة منه إلى المعارضة السياسية. لا محل للعمل المعارض في منظومة مفاهيم السلطة الأبدية، ولا محل حتى للعمل السياسي المستقل. كل عمل معارض أو مستقل سيواجَه بالقمع، فإما أن يعود الناس إلى "الطاعة" أو يتم إلغاء وجودهم السياسي، على الأقل. الأمر الذي يجعل السلطة الأبدية شبيهةً بسلطة الاحتلال التي تواجه بالمقاومة، لا بالمعارضة، لأنه لا حل مع الاحتلال سوى الرحيل.
F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.