العربي الجديد.. راجع

العربي الجديد.. راجع

31 يوليو 2017
+ الخط -
لم تنته الثورات في مصر وسورية، وما زالت ريح الربيع العربي لم تغادر سماء المنطقة. المؤشرات التي يستخدمها بعضهم للدلالة على أفول الثورات، في الغالب، مسلوقة ضمن سياق مصنوع ورغبوي.
وإذا كانت التعبيرات الثورية المباشرة قد توارت، نتيجة استشراس عصابات الحكم، فإن فوضى الحكم وتفسخ السلطة المركزية مؤشراتٌ على أن الدينامية الثورية ما زالت تعمل، ولكن بتقنيات جديدة.
يفوق عمر دولة الاستبداد في مصر وسورية أكثر من نصف قرن، تشكّلت في هذا الزمن الطويل نسبياً، وأسّست بناءها عبره، وأجرت هندسةً للمجتمعات المحلية، بهدف قولبتها وتنميطها ليسهل إخضاعها، وقد منحتها هذه المساحة الزمنية الفرصة لتشكيل بنى ثقافية وإيديولوجية وفئات اجتماعة رديفة لها، مستفيدة من موقعها القابض على مختلف التحولات الاجتماعية والاقتصادية، وتوجيهها في المسارات التي تناسبها.
وقد شكلت الثورات قطوعا مع هذه المرحلة، ملغيةً كل تراثها وترتيباتها ودافعةً إلى واقع مختلف، عبر تدميرها بنية الاستبداد العتيدة، غير أن العملية تعثّرت عند مستوى إنتاج السلطة، ذلك أن الثورات أخطأت في تقدير قوّة الدولة العميقة، وحدود شراسة حرّاس الأنظمة القديمة، وعدم صلابة المجتمع الدولي في رفض جرائم تلك النظم.
وعلى عجل، حاولت الأنظمة القديمة إعادة بناها السلطوية، وشبكاتها الاستبدادية، وخاضت 
المعركة على مبدأ قاتل أو مقتول، استخدمت كل أنواع الأسلحة في مواجهة مجتمعاتها ومختلف أشكال الجريمة. ولاقت في ذلك دعما إقليميا ودوليا منظّما، وكان في مقدمة أهدافها تحطيم المجتمعات التي أنتجت الثورة بدون رحمة، وعدم منحها الفرصة للاستفاقة من الجحيم الذي وضعتها فيه قبل انتزاع الثورة من سلوكها وخيالها مئة عام مقبلة.
سعت هذه الأنظمة، وفي سياق حربها على الثورات، بكل طاقتها الإعلامية والأيدولوجية، إلى تشويه قيم إنسانية نبيلة، الحرية والديمقراطية والإسلام، بذريعة أن هذه القيم مصادر للفوضى والخراب، كما ساهمت بتشويه الشخصية العربية والإسلامية، اعتقادا منها أن ذلك سيجلب التأييد لها، أو أقله، يمنحها صمت العالم عنها.
على الرغم من ذلك كله، لم تكن لهذه الجهود تأثيرات حقيقية على مستوى وأد الثورات، وإعادة إحياء السلطة القديمة لأسباب عديدة، ذلك أن السلوك القمعي وعمليات التشويه الواسعة التي مارستها هذه السلطات، بغرض عزل تأثيرات الفئات والنخب الاجتماعية الثائرة، وتجريدها من أدوات تعبيرها، كان لها تأثير معاكس، بسبب الارتباط العضوي بين تلك الفئات والمجتمع الأوسع، وهو ما أدى إلى عزل الأنظمة وأدواتها ووضعهم بموقع القوى المتآمرة على قيم المجتمع وثقافته.
بالإضافة إلى ذلك، عملت أنظمة مصر وسورية، والأنظمة التي اعتقدت أنها قمعت الثورات قبل وصولها إليها، على قمع (وملاحقة) كل شيء فيه شبهة حرية وديمقراطية من دون تمييز، وهو أمر يتناقض مع سير الحياة الطبيعية للمجتمعات، في عصر ما بعد الحداثة والديمقراطية، وهو ما يبقي التوترات الاجتماعية على أشدّها، والتي راحت تعبر عن نفسها من خلال ازدياد معدلات الجريمة، ووصولها إلى أرقام قياسية، وظهور أنماط من السلوكيات الاجتماعية ما قبل حداثية (العودة إلى القبيلة والمناطقية).
يدرك عناصر الثورات المضادّة أن زمنهم انتهى، وقد أقرّت حلقات كثيرة منها بالهزيمة، وتعرف هذه الأنظمة أن كل مبرّراتها سقطت، وخطابها الإيديولوجي انتهى، وأدواتها السلطوية ليست سوى أبنية فارغة، تجعل العملية السياسية زائفةً وغير حقيقية.
ما لا تريد فهمه هذه الأنظمة أن إطفاء شعلة الثورة شيء، وتحقيق الاستقرار في الحكم شيء آخر، ذلك أن الاستقرار يحتاج إلى واحدٍ من أشكال الشرعية، لن تجلبه ادعاءات تلك الأنظمة بأن سبب حالة عدم الاستقرار التي تضربها مؤامرات خارجية تدبرها هذه الدولة أو تلك عبر أدوات داخلية!
اعتقدت الأنظمة أن الخروج من المأزق يتم من خلال عكس المواجهة، وبدل هجوم الجماهير
بمطالب الحرية والديمقراطية والمساواة ومحاربة الفساد، شنّت الأنظمة هجوما على الشعوب، واتهمتها بالتخلف والجهل والإرهاب، وإذا كان بعضهم يعيب على الثورات أنها لم تطرح مواقف محدّدة من قضايا الثقافة والمرأة والأقليات، وحتى المثليين، فإنه ليس لدى الأنظمة السابقة تصورات، حتى عن تأمين لقمة الخبز، كما أنها تعتبر أن الأزمات التي تواجهها المجتمعات هي من صنع يديها، وأن الأنظمة غير ملزمة بإيجاد حلول لها، بل الأجدى بقاءها نوعا من العقاب لها.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن شروط الثورة ستبقى قائمةً ولن تنتهي، إذ يستحيل، ضمن هذا الواقع، أن تتوصل تلك الطغم إلى صيغ عقلانية، لمصالحة المجتمعات، ولا لإدارة مراحل انتقالية سليمة، ولم تتغير الظروف التي دفعت الشعوب إلى الثورات، بل تعزّزت أكثر، ولا يعني انعدام وجود تعبيرات ثورية صريحة أن الأمور تسير بشكل جيد، بقدر ما يعني أن الثورة مضطرّة للتواري عن أعين السلطات المستشرسة إلى حين.
ولد من رحم الربيع العربي عربي جديد، وضع الأنظمة العربية كلها في مأزق، فلا هي قادرة على وأده، مهما استخدمت من سياسات إبادة وقمع. ولا هي تستطيع إعادة تخليق القديم الذي احترقت جثته مع نيران محمد بوعزيزي، وما على أنظمة الإستبداد سوى توضيب حقائبها للرحيل، وإن طال المشوار...فالعربي الجديد راجع.
5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".