مصر والسودان من التكامل إلى التنافر

مصر والسودان من التكامل إلى التنافر

12 يونيو 2017
+ الخط -
أثار خبر حظر حكومة السودان دخول السلع الزراعية والحيوانية من مصر، ضجة كبرى في وسائل الإعلام المحلية في البلدين، وكان لها صداها عالمياً. وتلقفته الميديا الاجتماعية لتهيل عليه اتهامات متبادلة، ضاعت في وسطها الأسئلة المهمة، على الأقل بالنسبة للسودانيين. فخلف ضجيج الإعلام والأسباب وراء هذا الإعلان المتستر بحجبٍ سياسيةٍ كثيفة، أسئلة موضوعية عن حال الإنتاج الزراعي والحيواني السوداني نفسه، وما يجعل سلة الغذاء تحتاج إلى الغذاء من الخارج.
قبل سنوات، كان رئيس اللجنة الاقتصادية في البرلمان السوداني يتحدث إلى حلقة صغيرة من وزراء ومسؤولين سابقين في السودان، تصادف اجتماعهم في مؤتمر إقليمي في الدوحة. يشرح لهم خفايا خبر شغل الناس وقتها، حين ضجّ الشارع بالحكايا عن تصدير اللحوم السودانية إلى مصر، وبيعها هناك بأسعار أرخص مما في السودان. توصيف هذه الحالة القانوني، وفقا لرئيس اللجنة، ضرب الاقتصاد السوداني، ما يضعها في خانة "الخيانة العظمى". وكلف البرلمان لجنة للتحقيق في القضية، مهمتها الوحيدة التحقق، ومعرفة التاجر المجهول الذي ألحق الضرر البليغ بالاقتصاد السوداني. وبدأ البحث، وانتهى الخيط عند أحد أشقاء الرئيس عمر البشير. واجهته اللجنة بأسئلةٍ عن الجهة التي سمحت له بتصدير اللحوم السودانية، وبيعها بسعر أرخص بكثير عن سعرها في السودان، وما إذا كان يدرك أن هذا العمل يلحق الضرر بالاقتصاد السوداني، ويصنّف خيانةً عظمى. وكان رد شقيق الرئيس، والعهدة على رئيس اللجنة، مختصرا جدا بأنها أوامر جهات عليا، وحينما سئل عن هذه الجهات، اكتفى بترديد العبارة نفسها إنها "أوامر عليا". وكان المستشفّ من رده المقتضب أن هناك جهة واحدة عليا، ولسان حاله يقول "واللبيب بالإشارة يفهم". توفرت الأدلة كاملةً لدى اللجنة، ورفعت تقريرها إلى البرلمان، وانتهى التحقيق إلى لا شيء.
وقبل الوصول إلى القرار الحكومي الذي صدر أخيراً في الخرطوم، وخلفياته السياسية وتوقيته مع إلغاء زيارة مقرّرة لوزير الخارجية السوداني، إبراهيم غندور، للقاهرة، قبل أن يعود الوزير، ويسجل زيارة إلى القاهرة، فمن المهم طرح السؤال عن الكيفية التي تُدار بها سياسة
التصدير والاستيراد في السودان. وثمّة سؤال يصعب إيجاد إجابة عليه، بشأن حجم احتياجات استهلاك السوق المحلي في السودان من أي سلعة، فمصانع السودان، مثلا، تنتج السكر، لكنّ أحداً لا يعرف حقيقة حجم احتياج السوق منه، وحجم الإنتاج المحلي، وحجم المطلوب من المستورد. وتنتج المزارع في السودان كميات من الطماطم، ومع ذلك يتم استيراد هذه السلعة من إريتريا والأردن، ولا أحد يعرف السبب، إن كان لقلة في الإنتاج المحلي، أم لعزوف المزارعين عن الزراعة، لأسباب تتعلق بالرسوم الزراعية والجبايات والضرائب.
وأهمية هذه الأسئلة التي يصعب إيجاد أجوبة حقيقية عليها، شأن حجم إنتاج السودان الحقيقي من الذهب، وقبله النفط، التي تحاط عادة بسريةٍ تحجب الحقيقة عن الناس، ولأن هذا السؤال الذي يبدو ساذجا يقود إلى سؤال كبير عن الطنطنة، والكلام الكثير عن السودان سلة خبز العالم. ولهذا، وقبل الولوج في الأسباب وراء استيراد سلع من مصر، أو غيرها، هناك الحاجة إلى إجابات شافية من المسؤولين، لمعرفة النقطة التي يمكن الوقوف عندها، فيما يتعلق بالإنتاج الزراعي والحيواني المحلي، وحتى نستبين مواطن الخلل، ونتحدث بمعرفةٍ عن الإنتاج الزراعي والحيواني في السودان. بصورة أخرى: نسأل من يخطط للزراعة في السودان، ومن يخطط للأمن الغذائي وتوفير الغذاء في السودان؟ وكيف حال إنتاج السودان من الخضر والفاكهة، كم حجمه، وكيف يوزع؟ وأين تذهب الثروة الحيوانية، هل تتطور وتنمو، أم مكانك سر، أم أنها في تراجع؟ والسؤال الآخر، والذي لا يقل أهمية، موجه للمسؤولين في المنظمات الزراعية العربية في الخرطوم: تُكثرون من الخطب والأحاديث عن أراضي السودان البكر الشاسعة الواسعة، وأن السودان سلة خبز العرب والأراضي التي تكفي لتغذية العالم؟ كيف هو حال السودان الزراعي في الواقع وكما ترونه؟ هل أنتم راضون عن هذا البؤس الزراعي والمشاريع الزراعية العملاقة في السودان التي تنهار وتموت أمام ناظريكم، وما هو دوركم؟ أليس فيكم عاقل ليجهر بالحقيقة التي من الواضح أنها موجودة، بيّنة وناصعة، لكنها تختبئ بين أضابير التقارير الكثيرة المحفوظة لسببٍ ما، تغمرها طبقاتٌ من الكياسة الدبلوماسية والمجاملة؟
تبقى الحقيقة بينة وظاهرة للسودانيين، إنها آفة الفساد وغياب التخطيط، وغياب البنيات التحتية اللازمة، مع انحطاط حال الزراعة إلى درجةٍ أصبح فيها السودان بلدا مستوردا منتجات زراعية، فيما تحجب الأسعار المرتفعة الموجود منها عن متناول المواطن السوداني. وبعد هذا كله، كيف يجد المسؤولون المحليون أو العرب الشجاعة والقدرة العجيبة التي تجعلهم يعيدون الخطب نفسها والكلام الطنّان والتعبيرات الهلامية، وعبر عقود، عن سلة خبز العالم الموعودة. وكيف يكون السودان بلدا زراعيا، وحكومته لا تخطط ولا توجه بتعليم قوامه الزراعة، ولا تعترف الدولة بمكانة الزراعيين، ولا أهمية التعليم الزراعي. والمؤسف في هذا الجدل بين مصر والسودان انحدار المشهد من تطلعات التكامل إلى تنافر متكامل.

دلالات

0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.