حماس والقابلية الفلسطينية للنقد والنقد الذاتي

حماس والقابلية الفلسطينية للنقد والنقد الذاتي

14 مايو 2017

قيادة حماس تعلن الوثيقة الجديدة في الدوحة (معتصم الناصر)

+ الخط -
قدّمت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وثيقتها السياسية الجديدة، والتي توافق فيها على قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو/ حزيران1967، باعتبارها "صيغة توافقية وطنية مشتركة" مع كل الاشتراطات الأخرى حول عودة اللاجئين وعدم الاعتراف بإسرائيل... إلخ. واعتبر رئيس المكتب السياسي (السابق) للحركة، خالد مشعل، أن الوثيقة دليل "نضج وتطور" في فكر الحركة. ومن حق "حماس" أن تتطور وتنضج كما تشاء، لكن من حق الفلسطينيين عليها أن تقدّم كشف حساب ونقدا ذاتيا لتجربتها. فحتى قبل أشهر قليلة، كان قول الآخرين بما جاء في وثيقتها يعتبر منها تفريطاً ومساً بقدسية الأراضي الفلسطينية التي هي "وقف إسلامي"، لا يحق لأحد التنازل عنه، أو المساومة عليه أو التفريط به، وكان هذا بالنسبة إلى "حماس" معادلاً للخيانة. وقد دفع الفلسطينيون أثماناً غالية تحت شعارات "حماس". ماذا يمكن للحركة الإسلامية أن تقول لهم بشأن أثمان النضج التي دفعها الفلسطينيون من دمائهم؟ الجواب: لا شيء. 

ليس عدم تقديم كشف حساب للفلسطينيين، أو ممارسة النقد الذاتي للتجربة السابقة، حكرا على حركة حماس، فمنذ انطلاقتها في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، احتكرت الفصائل الفلسطينية، المؤتلفة في إطار منظمة التحرير، الوطنية الفلسطينية، وصاغت معادلةً تقوم على أساس أن من يدخل في عضوية هذه الفصائل يكون "داخل الصف الوطني"، والذي يستقيل 
منها يصبح "خارج الصف الوطني". وبالتالي، تمت معاقبة أعضاء عديدين تركوا هذه الفصائل بالتشهير والتخوين والاتهام بالعمالة لسلطات أخرى، لمجرّد أنهم خرجوا من فصائلهم لخلافات سياسية ومواقف نقدية. كانت هذه الصيغة فعالةً في محاصرة الأصوات النقدية في التجربة الفلسطينية، بذريعة اتهامها بأنها أصوات الطابور الخامس الذي يحاول هدم التجربة الفلسطينية من داخلها. على الرغم من ذلك، كان منسوب النقد والنقد الذاتي في التجربة الفلسطينية، في سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، أعلى بكثيرٍ منه في الوقت الراهن.
رفضت فصائل العمل الوطني مجتمعة النقد، بذريعة أولية المعركة مع العدو، وهو ما قالت به "حماس" في ما بعد. وكثيرا ما استعارت الفصائل الفلسطينية الشعار المصري "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، باعتباره أداة قمع شديدة الفعالية في إسكات الأصوات النقدية التي لا تعجبها. والآلية الأهم التي تم اعتمادها في ذلك الوقت، واستخدمتها "حماس"، وتستخدمها اليوم بطريقة أكثر حدّة من السابق، هي الخلط المتعمد بين النقد الذاتي وجلد الذات.
والمقصود بالنقد الذاتي نقد سياسات الفصائل ومنظمة التحرير ونقد سياسات "حماس"، بوصفها سياساتٍ لا تتناسب مع الأهداف الفلسطينية وطبيعتها قضية تحرّر وطني من احتلال استيطاني، وبالتالي نقد السياسات التي تجعل الفلسطينيين يدفعون ثمنها غالياً، من دون أن يحصلوا، في مقابلها، على منجزاتٍ على الأرض، أي نقد السياسات العدمية، أو الممارسات التي لا تخدم المصالح الفلسطينية من وجهة نظر المنتقدين. وليس المقصود هنا جلد الذات، بأن يحمّل الفلسطينيون أنفسهم مسؤولية السياسات الإسرائيلية، لأنهم ارتكبوا أخطاء سياسية أو حتى خطايا، وبالتالي اعتبار السياسات الإسرائيلية، الاحتلالية ووحشيتها محقة. كأن نقول إن الموقف الفلسطيني الرافض قرار التقسيم في 1947 يعطي الحق بإقامة دولة إسرائيل على أنقاض المجتمع الفلسطيني، أو القول إن الحروب الإسرائيلية على غزة كان يمكن لـحركة حماس، والفصائل الملتفة حولها تجنّبها، يعطي الحق لإسرائيل بتدمير غزة ويبرّر عدوانها بقتل الآلاف وجرحهم.
كل نقد لسلوك الفصائل وحركة حماس التي تحتكر "الوطنية الفلسطينية" متهم بأنه يخدم العدو، فلو قيل لحركة حماس اليوم إن أغلب مطالبها المحقة اليوم برفع الحصار عن قطاع غزة كان متحققاً قبل الصراع الدموي الداخلي بينها وبين حركة فتح قبل عشر سنوات، وذلك كله بفضل اتفاقات أوسلو على كل عيوبها، ولم نكن بحاجة لكل هذا الدم الذي سال خلال هذه السنوات، لا على يد الإسرائيليين، ولا في الصراع الداخلي الفلسطيني ـ الفلسطيني، لنعود ونطالب بما كان متحققاً، نصبح بهذا النقد نخدم العدو الصهيوني، ونشكّك بالانتصارات العظيمة التي حققتها حركة حماس في التصدّي للحروب الإسرائيلية على القطاع!
يشبه ما قامت به حركة حماس قصة "الحاخام والعنزة" اليهودية، وجوهرها يقول إن جعل 
الظروف أسوأ يجعل الوضع السيئ السابق الأفضل مطلبا وهدفا، فقد تم وضع الفلسطينيين في شروط أسوأ، واليوم يبدو الهدف هو إخراجهم من هذا السيئ إلى الأقل سوءاً، أي إلى وضعهم السابق، وهو ما يُظهر الوضع الجديد بوصفه إنجازا. ولكن، للأسف حتى الوضع السابق بات بعيد المنال. ولا يعني هذا النقد أن إسرائيل على حق في سياساتها العدوانية الاستيطانية، والأخطاء والحماقات الفلسطينية لا تبرّر الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين. وفي المقابل، لا قدسية لحركة المقاومة، وكل مقاومةٍ قابلة للنقد، ولها حصتها من الأخطاء والسلوكيات الخاطئة، حتى تحت النار، فلا يدفع ثمن العدوان المقاتلون وحدهم.
إذا قلت اليوم إن الحرب في صيف 2014 على غزة كان يمكن تجنبها، وجاءت في وقتٍ لا يناسب الفلسطينيين على الإطلاق، وفي أسوأ شروط فلسطينية. هذا القول لا يجعل العدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة محقاً، وهذا النقد لا يخدم العدو كما تدّعي "حماس". عندما يحتكر طرف قرار الحرب، ولا يدفع ثمنه وحده، عليه أن يسمع كل النقد الذي يوجّه إليه، حتى لو جاء تحت النار، فليس أعضاء "حماس" وغيرهم من الفصائل وحدهم من دفع الثمن. واليوم نرى جيدا أن من دفعوا الثمن الغالي للوحشية الإسرائيلية هم سكان غزة البسطاء والضعفاء والفقراء. وليست قدرة الصمود الفلسطينية الكبيرة مبرّرا لذبح الشعب الفلسطيني، المرّة بعد الأخرى، لإثبات وحشية إسرائيل، فلهذه الوحشية علامات على كل جسد فلسطيني، ولها ضحية في كل بيت فلسطيني.
يبحث النقد الذاتي في الأخطاء التي ارتكبناها بحق أنفسنا، ومحاسبة أنفسنا على هذه الأخطاء التي ندفع ثمنها دماء، ولنتجنب دفع هذه الأثمان مرة أخرى. ولا يعني أن من يسقطون يعتبرون شهداء التعامل مع الأرواح البشرية بخفّة، ومحاسبة الذات يجب أن تكون علنية. خاضت "حماس" حرباً مع السلطة الفلسطينية، وطردتها من قطاع عزة، وقامت حرب طاحنة ودموية بين الطرفين للاستيلاء على السلطة، ويعود الطرفان المرة بعد الأخرى للحديث عن المصالحة، من دون أي مراجعة من أي طرفٍ للصراع الدموي تقول للبشر/ الضحايا، ما الذي جرى ومن المسؤول عن الدم الذي سال في هذا الصراع؟ أما سياسة "صفحة وطويت" فتُبقي كل عوامل الصراع الداخلي الدموي قائمةً، وقابلة للتجدّد في أي وقت.
النقد الذاتي ضرورة ملحة من أجل تجنب تكرار الأخطاء، وتقليل الأثمان التي ندفعها. أما الإصرار على أننا دائما على حق، فهي وصفة للفشل المرّة بعد الأخرى، كأن ننضج بعد أعدائنا الداخليين بأربعين عاما، مدّعين انتصاراتٍ تعيدنا دوما إلى نقطة الصفر.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.