الاستبداد ليس شرقياً بالضرورة

الاستبداد ليس شرقياً بالضرورة

06 فبراير 2017
+ الخط -
ما تزال الأخبار الغريبة تترى من كوريا الشمالية، عن ممارساتٍ سياسيةٍ تتعلق بعبادة الفرد، يقوم بها رئيس البلاد الذي يكاد المرء يعتبره مستهدفاً من الإعلام الغربي، لشدة غرابة أخباره، وخصوصاً التي تتعلق بعقوباتٍ يوقعها على سياسيين كبار من بلده، لم يقوموا بممارساتٍ مطلوبة منهم كما يجب، كأن لا يصفق واحدهم بحماس، أو يغفو من التعب في أثناء خطابٍ للرئيس، أو لا يبكي بحرقةٍ كافيةٍ في مناسبةٍ ما، فيكون عقابه الإعدام بإطلاقه على صاروخ، أو إرساله للعمل في الريف في مهن بسيطة، إلى غير ذلك من أخبارٍ تكاد لا تُصدّق لشدة غرابتها. وقد سألت خبيراً في الشؤون الكورية عن هذه الأخبار، فاعتبرها ملفقة، وتستهدف صورة كوريا الشمالية، خصوصاً بسبب إحرازها نجاحات في المجال العسكري.
لكن ما هو مؤكد أن الرئيس كيم يونغ أون الذي يحمل لقب "الخليفة الأعظم"، وهو اليوم في منتصف ثلاثينياته، ورث حكم الجمهورية "الديمقراطية الشعبية" ليس عن أبيه فقط، على غرار ما جرى وكاد يجري في جمهوريات وجماهيريات عربية هي الأخرى "ديمقراطية وشعبية!"، بل عن أبيه كيم يونغ إيل، وجدّه، الرئيس الخالد كيم إيل سونغ، كما يبدو مؤكداً من ممارساته، على سبيل المثال، أنه يُطلب من النساء البكاء في حال لقائهم الرئيس، كما تظهر صور إعلامية تأتي من هناك.
ومؤكد أيضاً أن ثمّة على بعد مئات الكيلومترات فقط، إلى الجنوب، كوريا أخرى شكلاً ومضموناً. ثمّة رئيس جمهورية ينتخبه الشعب، ولا يحظى بأي ألقابٍ تعظيمية، ولا يبقى في السلطة إلا بضع سنين، فلا يورّثها طبعاً لأحد، فيما يكون من مهمات العسكر أن يحموا البلاد من خصوم الخارج، بدون حاجةٍ للاحتكاك مع مواطنيهم بالحديد والنار، أو بغيرهما.
يحدث ذلك عند مجتمع آخر من الأمة الكورية نفسها. ثمّة، إذن، كوريّون يمارسون الحرية وتكافؤ الفرص، وكوريّون يعتاشون على عبادة الفرد، فلا تقاس المسافة بينهم بمئات الكيلومترات، بل بمئات السنين. والعبرة أنه لا علاقة للعرق والقومية بمآلات الشعوب. الاستبداد ليس شرقياً بالضرورة، وليس حكراً على العرب في جمهورياتهم وجماهيرياتهم، وكذا هو حال الحرية التي لا تختص بعرق دون آخر. ففي كوريا الجنوبية، لمستُ في أثناء زيارة عمل هناك خلال العام 2011، كيف أن فكرة الحرية الشخصية، واحترام خصوصيات الآخرين، مقدّسة بين أفراد المجتمع، كما هو حال معظم مجتمعات أوروبا، ما يعني أيضاً أن الحريات ليست صناعة غربية، ولا استيراداً من الغرب، بل فطرة إنسانية، وأساساً لنجاح الشعوب وتقدمها. وأحسب أن كوريا الجنوبية، المعروفة بنجاحاتها الصناعية الكبرى، هي "بنتُ الحرية"، فيما كوريا الشمالية المحاطة بالغموض ليست إلا وليدة الشمولية والاستعباد.
مثالان من شبه الجزيرة الكورية نستطيع تلمسهما، نحن العرب، بينما ننظر ست سنواتٍ إلى الوراء، قامت خلالها ثورات الربيع العربي، وبلغت من مآلاتها ما بلغته. وبينما بدّدت، في أكثر من جمهورية عربية، فكرة توريث الحكم، إلا أنها لم تنجح، في المقابل، في تحقيق استقرار تلك البلدان، وبناء ديمقراطيتها الحقيقية، وتكريس مبادئ الحريات في حياتها الاجتماعية. ليس مهماً أن المثالين الكوريين نتجا عن التأثير الأميركي في الجنوب، والسوفييتي في الشمال، ففي الجنوب يمارس الكوريون حريتهم اليوم باعتبارها لهم، وأداتهم لاستمرار النجاح، من دون شعورٍ بتبعيةٍ لأميركا، فيما يواصل الشماليون خضوعهم للتسلط، بعد أن زال الاتحاد السوفيتي، وظل الزعيم ملهماً من دون اتصال بدولة عظمى تلهمه.
ليس ذلك مهماً، لأن الأمور بخواتيمها. وما دامت بخواتيمها، فليس صالحاً أن نحكم على ثورات الربيع العربي التي كانت طيّبة النيات، وهي لم تبلغ خواتيمها بعد، فضلاً عن أنه ليس صالحاً التشكيك بنيات هؤلاء الشباب الذين قامت الثورات في جمهوريات الثوريت على أكتفاهم، يوم كانوا مدفوعين بحب أوطانهم، فقدّموا أرواحهم رخيصة، ولم يكن في حسبانهم أن تحل الفوضى محل استقرارٍ كان يخنقهم، ذلك أن الاستبداد في عالمنا العربي ليس قدراً، ما دام الاستبداد حقاً "ليس شرقياً بالضرورة".
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.