الصراع على أميركا

الصراع على أميركا

03 فبراير 2017
+ الخط -
بعيداً عن الجانب الإخباري والتحليلي للأسبوعين الأوَّلين من رئاسة دونالد ترامب، فإن ما يجري في الولايات المتحدة اليوم ليس صراعاً في أميركا فحسب، بل هو صراعٌ عليها، أيضا، وعلى جوهرها والقيم التي تَزْعُمُها. فالدَّعامات التي قامت عليها حملة ترامب الرئاسية وُصِفَتْ، منذ اليوم الأول لإعلانه الترشيح، بأنها "غير أميركية". لم يكن ذلك اتهام خصومه الديموقراطيين وغيرهم فحسب، بل إن معظم زعامات الحزب الجمهوري الذي ترشح باسمه كانوا يوجهون له الاتهام نفسه، إلى حين صدموا بالحقيقة الفاجعة من أنه أصبح رئيسا للولايات المتحدة، باسمهم جميعا. تهم الابتعاد عن "القيم الأميركية" ألقيت في وجه ترامب عندما تحدّث عن المهاجرين المكسيكيين والمسلمين والنساء والإعلام والمعاقين جسديا. أيضا، ألقيت هذه التهم في وجهه، عندما شكك في التزامات أميركا الدولية، والتزامها بأمن حلفائها والأطر والهياكل التي قامت عليها العلاقات معهم، كما في حالتي الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو). كما لم تغب هذه التهم الموجهة إليه، وهو يتودّد إلى الخصم الاستراتيجي الأميركي، روسيا، في حين يُصَعِّدُ مع حليف أوروبي، كألمانيا.
هذا غيض من فيض تهم ألقيت في وجه ترامب المرشح، ولكن ترامب لم يعد مرشحاً، فهو رئيس اليوم. والآن، ثبت بالدليل القاطع أن كل توقعات أن خطابه الشعبوي سيجنح نحو الاعتدال بعد توليه الحكم لم تكن صحيحة أبدا. هذا ما دفع مراقبين أميركيين كثيرين إلى القول إنه ينبغي أخذ كل ما تعهد به ترامب "حرفيا وليس فقط بجدية". ولعل في القرار الذي أصدره ترامب أخيراً بفرض "حظر مؤقت" على دخول مواطنين من سبع دول بغالبية سكانية مسلمة ما يكفي للتدليل على ذلك، فعلى الرغم من أن البيت الأبيض ينفي أن هذا القرار يمثل "حظرا على دخول المسلمين" إلى الولايات المتحدة، إلا أن ترامب نفسه يستخدم مصطلح "الحظر"،
في حين أن أحد مستشاريه، العمدة السابق لمدينة نيويورك، رودي جولياني، قال بوضوح إن ترامب طلب منه وضع لغة قانونية "أكثر قبولا" لمسألة "حظر دخول المسلمين" إلى أميركا.
على أي حال، ليس هذا موضوعنا، فالتقارير الإخبارية والتحليلية حوله كثيرة، غير أنه يعطينا مؤشرا واضحا على ما يمكن أن تكون عليه أميركا تحت ترامب. على المحك، القيم الأخلاقية والدستورية التي تفاخر بها الولايات المتحدة. إنها الأعراف التي كان يُظَنُّ أنها استقرت هي ما تتعرّض إلى الامتحان. إنه اختبار عسير للتعديل الدستوري الأول الذي يعتبره الأميركيون أهم ما يميز أميركا عن باقي العالم، ويساهم بالنصيب الأكبر في صياغة زعم "الاستثنائية" الأميركية.
يُسَيِّجُ التعديل الدستوري الأول حرية الدين والعبادة، وحرية التعبير والصحافة، كما يُسَيِّجُ حق التجمع وحق المواطنين في تقديم التماسات للحكومة لإنصافهم من إجحافٍ حَلَّ بهم. كما أنه يمنع الكونغرس من أن يسن أي قانون يعزّز من مكانة دينٍ معين. لكن ما نراه تحت ترامب اليوم أن هذه الحقوق والقيم تتعرّض لاعتداءٍ شرس. فها هي إدارته تفرض نوعا من أنواع "حظر" دخول الولايات المتحدة على أساس ديني، بل هناك حديث كثير يجري تداوله عن فرض "فحصٍ ديني" على الزائرين والمقيمين، بل ويمكن أن يطاول المواطنين الأميركيين، طبعا المسلمين. أيضا، تشن الإدارة حرباً شرسة على قيمة حرية التعبير وحرية الإعلام. وقد شاهد العالم بأسره ترامب نفسه، وهو يهين صحافيين، ويتهم الإعلام بأنه كاذب، ووصفه بـ "حزب المعارضة"، وسمعنا من كبير مستشاريه، اليميني العنصري المتطرّف، ستيفين بانون، وعيده للإعلاميين بأنه ينبغي عليهم أن "يخرسوا".
لا نحتاج إلى كثير إثبات أن التاريخ الأميركي عرف بوناً شاسعاً بين منظومة القيم والممارسة العملية. مثلا، على الرغم من أن دستور الولايات المتحدة يضع السلطة العليا في يد الشعب: "نحن شعب الولايات المتحدة"، إلا أن "الشعب" لم يكن يعني، منذ البدء، كل عناصره ومكوناته. فقد تمَّ استثناء السكان الأصليين والعبيد السود عقوداً طويلة جدا. أيضا، على الرغم من أن التعديل الدستوري الرابع عشر ينص على المساواة في الجنسية والحقوق القانونية وحق التقاضي، غير أن أميركا لا زالت تعاني من التمييز العنصري، والسود والمسلمون هم النموذجان الأبرز. بل إن النساء أنفسهن لم يتمتعن بحق التصويت حتى عام 1920.
إذن، في تاريخ أميركا محطات سوداء كثيرة، من عمليات إبادة وقعت بحق السكان الأصليين واسترقاق السود، إلى إساءة معاملة الكاثوليك وحظر دخول الصينيين واليهود في مراحل تاريخية معينة، ومن المكارثية والمعتقلات الجماعية لليابانيين، وصولا إلى معتقل غوانتنامو. واليوم استهداف المسلمين على أساس ديني، لا على أساس شكوك "إرهابية".. إلخ. لكن،
وعلى الرغم من كل هذه المحطات السوداء في التاريخ الأميركي، وأحصر الحديث هنا داخليا، لا عن سياستها الخارجية، فذلك فصل آخر أكثر قتامةً، غير أن أميركا بقيت دوما موئلا لذلك التدافع الحيِّ بين قواها المختلفة على أرضية "أي أميركا نريد؟" هل هي المستوعبة كل مكوناتها وأعراقها وأديانها، أم أننا نريد أميركا التي تقوم على أساس حماية امتيازات الغالبية البيضاء؟ وبسبب من هذا التدافع، خاضت أميركا حربا أهلية (1861-1865)، بسبب توجهات الرئيس أبراهام لينكولن لإلغاء العبودية، كما أنها شهدت توتراتٍ سياسيةً كبيرة في ستينيات القرن الماضي على أرضية الحريات المدنية للسود الأميركيين.
باختصار، قد يكون تركيز الإعلام اليوم منصبا على قرار ترامب استهداف المسلمين، سواء أكانوا مواطنين أميركيين أم لا، غير أن الواقع يذهب إلى أبعد من ذلك. إننا أمام "انقلاب ناعم" على القيم والمصالح الأميركية، كما كانت تعرف إلى حدود أسابيع قليلة. بل إنها محاولة لخطف أميركا وصياغتها من جديد على أيدي يمينيين عنصريين متطرّفين. إعادة صياغة للقواعد الناظمة والقيم والأعراف المستقرة أميركيا بشكلٍ يستهدف كل من يخالف الإيديولوجيا الشوفينية لكثيرين ممن هم في موقع القرار اليوم. وما نراه اليوم من ردة فعل المجتمع المدني الأميركي، بكل مكوناته، ليس سببها الوحيد قرار "حظر المسلمين"، وإنما مبعثها الأهم "أيّ أميركا نريد"؟ ولكن، من الضروري أن نُقِرَّ هنا بأن أميركا منقسمةٌ على ذاتها في هذا الشأن، وهذا هو أخطر ما في الموضوع، ولا يبقى لنا إلا انتظار أن ينقشع غبار المعركة التي ستكون تداعياتها دوليةً، كما هي أميركية.