ألمانيا تعزّز حضورها القيادي العالمي

ألمانيا تعزّز حضورها القيادي العالمي

08 يوليو 2016

تظهر ألمانيا اليوم في موقعٍ عالمي إيجابي وحكيم (Getty)

+ الخط -
يعتقد فرانك فالتر شتاينماير، وزير الخارجية الألمانية ومؤلف كتاب "صنع في ألمانيا"، في مقالةٍ له، نُشرت أخيراً في مجلة فورن أفيرز، أن ألمانيا تحقق تقدماً وحضوراً عالمياً غير مسبوق؛ على الرغم مما يبدو في الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي وأزمة المديونية في الدول الأوروبية المتوسطية تحدياً رئيسياً لفكرة الاتحاد الأوروبي ومشروعه، ولألمانيا بطبيعة الحال التي تؤدي دوراً مركزياً في الاتحاد؛ فإن ألمانيا تعيش مجموعةً من الانتصارات، وتحقق تقدماً يضعها في موقع عالميٍّ قياديٍّ اقتصادياً وسياسياً، فقد أظهر تقرير لجنة التحقيق البريطانية في حرب العراق أن قرار غزو هذا البلد لم يكن صائباً، ولم يحقق الأهداف التي أعلنتها الحكومة البريطانية، ما جعل ألمانيا التي عارضت القرار بقوة تظهر اليوم في موقعٍ عالمي إيجابي وحكيم، وعبرت ألمانيا بسلام الأزمة الاقتصادية العالمية التي عصفت باقتصاداتٍ كبرى ومتقدمة في العام 2008، وتدير أيضاً مجموعة من العمليات السياسية والدبلوماسية في العالم، تجعلها تبدو اليوم الدولة الأقوى في أوروبا.
شهدت ألمانيا، منذ توحيد شطريها عام 1990، تحولاً واضحاً في اتجاه تعزيز دورها العالمي القيادي، وحقّقت تقدماً اقتصادياً كبيراً، وربما تكون، على هذا الأساس، حدّدت سلوكها ومواقفها تجاه قضية اللاجئين وأزمة اليورو، وقامت بدور دبلوماسي وسياسي في أزماتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ، مثل إيران وأوكرانيا وكولومبيا والعراق وليبيا ومالي وسورية والبلقان، وأخيراً انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي. وكانت ألمانيا قد عارضت الدور الأميركي للتدخل في العراق وإطاحة نظام الرئيس السابق صدام حسين، وشاركت مشاركة مهمة في إدارة استيعاب الأعضاء الجدد في الاتحاد الأوروبي في عام 2004، عندما انضمت إلى الاتحاد مجموعة جديدة من دول أوروبا الشرقية.
نشأت، بعد انتهاء الحرب الباردة، متواليةٌ من التحديات والتحولات الجديدة، وكان لألمانيا في إدارتها ومواجهتها دور عالمي مهم، مثل الإرهاب وهشاشة الدول والصراعات الداخلية. وعلى مستوى النظام العالمي، صعدت الهند والصين قوتين جديدتين مؤثرتين، ما أدى إلى تغيراتٍ مهمةٍ في العلاقات الدولية، وحدث خلافٌ جدّيٌ مع روسيا، بعد ضمها شبه جزيرة القرم. وهناك أيضاً الخلاف الإيراني السعودي، ويغيّر تنظيم الدولة الإسلامية المهيمن في أجزاء متصلة من العراق وسورية في طبيعة الحدود الدولية.
وشاركت ألمانيا عسكرياً في كوسوفو وأفغانستان، وكانت تلك المشاركة، للمرة الأولى بعد
الحرب العالمية الثانية، تحولاً استراتيجياً مهماً لألمانيا، وشاركت ألمانيا في العام 2006 في مراقبة نهاية الحرب بين إسرائيل وحزب الله. وتراقب السفن الحربية الألمانية سواحل البحر المتوسط لمنع تهريب الأسلحة، وذلك في جزءٍ من مهماتها الدولية بالتنسيق مع الأمم المتحدة، وعلى الرغم مما يبدو من سلبياتٍ لتعثر شراكة ألمانيا مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فإنه يظهر ألمانيا قوة كبرى، وبدأت ألمانيا، منذ الألفية الثالثة، تؤدي دوراً إقليمياً فاعلاً في الشرق الأوسط في النزاع العربي الإسرائيلي، وفي إدارة النشاط النووي الإيراني.
تدرك ألمانيا، بالطبع، كما يقول شتاينماير، أنها لا تستطيع وحدها أن تواجه مشكلة تدفق اللاجئين من العراق وسورية وأفغانستان وأفريقيا، ولا تستطيع أيضاً وحدها إدارة الأزمة الاقتصادية في أوروبا. ولأجل ذلك، أدارت تفاهماً مع تركيا، لتكون شريكاً مع أوروبا في مواجهة الأزمة، وتنظيم التدفق القانوني للمهاجرين إلى أوروبا، في مقابل منافع اقتصادية وسياسية لتركيا. وتعيش ألمانيا حالة سلامٍ تاريخيةٍ مع فرنسا وبولندا وسائر دول القارة الأوروبية. يقول وزير الخارجية البولندي السابق، راديك سيكورسكي "ألمانيا دولةٌ لا غنى عنها في أوروبا".
لم يكن القرار البريطاني الخروج من الاتحاد الأوروبي مريحاً لألمانيا، بل إنه يفرض عليها تحدياتٍ ثقيلةً إضافية. كان القرار، كما يصفه وزير الخارجية الألماني الأسبق، يوشكا فيشر، كارثة سياسية. هي كارثة لن تصل، بالطبع، إلى تدمير الاتحاد الأوروبي أو الكيان البريطاني، كما تجتهد الكتابات والتعليقات الإعلامية. ولكن، يحتاج قادة أوروبا، كما يقول فيشر، إلى مزيدٍ من الشجاعة، لتحقيق النمو الاقتصادي ومواجهة الأزمات العميقة التي تواجه أوروبا، ما يعني، بطبيعة الحال، أن الاتحاد الأوروبي يواجه مزيداً من التحديات، لن تقف عند خروج بريطانيا، إذ تتصاعد النزعات الشعبوية القومية واليمينية غير المتحمسّة للوحدة الأوروبية.
وبالتأكيد، بدأت العولمة التي وصلت إلى ذروتها في نهاية القرن تواجه تحدياتٍ جوهريةً، ونزعات جديدةً للانكفاء، ليس لأن العولمة كانت شرّاً محضاً، ولا لأن الانكفاء يمثل مواجهة للتهديد. ولكن الأمم تسلك، في مواجهة الأخطار والتحديات، وفي إدراكها وجودها وبقاءها سلوكاً دفاعياً قد يكون خاطئاً، وقد يكون تدميرياً أو عملاً ضد الذات. وفي ذلك، تبدو العقلانية التي تنظر إلى الواقع والأزمات بعدم يقين أقلّ تماسكاً من اليقين الأيديولوجي القومي، على الرغم من أنه أقلّ إدراكاً، وإذا نجح دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، فإن اليمين المتطرّف يبدو صاعداً وكاسحاً على مبدأ "علي وعلى أعدائي". وعلى الرغم من كارثية هذا السيناريو وخطورته، فإنه يرشح ألمانيا لتشارك في قيادة العالم على نحو أكثر حضوراً وتأثيراً من قبل.
428F6CFA-FD0F-45C4-8B50-FDE3875CD816
إبراهيم غرايبة

كاتب وباحث وصحفي وروائي أردني، من مؤلفاته "شارع الأردن" و"الخطاب الإسلامي والتحولات الحضارية"، وفي الرواية "السراب" و"الصوت"