معاهدة التبادل الحر الأميركية - الأوروبية

معاهدة التبادل الحر الأميركية - الأوروبية

07 مايو 2016

احتجاج ضد الشراكة الأوربية الأميركية في بروكسل (24فبراير/2016/Getty)

+ الخط -
تثير معاهدة التبادل الحر بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة نقاشاتٍ ومخاوف في البلدان الأوروبية. وتهدف هذه المعاهدة "تافتا" (منطقة التجارة الحرة العابرة للأطلسي) ورسمياً بـ "الشراكة العابرة للأطلسي للتجارة والاستثمار"، إلى تحرير التبادل التجاري بين ضفتي الأطلسي، بإقامة سوق مشتركة بين الاتحاد الأوروبي (بدوله الـ 28) والولايات المتحدة، من خلال تخفيض رسوم جمركية وإلغاء أخرى، وتقريب القواعد المعمول بها لدى الطرفين.
يندّد قطاع عريض من النخب وصناع الرأي والمواطنين في دول الاتحاد الأوروبي بهذه المفاوضات، وبالسرية التي تكتنفها، فيما تدافع عنها المفوضية الأوروبية. أما دول الاتحاد فقد صعدت لهجتها أخيراً، تحت ضغط الرأي العام، واضعةً عليها بعض الشروط. وهو موقف غريب، فهي مَن منح المفوضية الأوروبية صلاحية التفاوض مع الولايات المتحدة، لكنها تتصرّف، وكأنها تجهل خبايا المفاوضات؟ من المستبعد أن تلتزم المفوضية الأوروبية ببنود ما في إطار المفاوضات حول هذه المعاهدة من دون الإذن المسبق من دول الاتحاد. وإن فعلت، فهذا يعني أن هناك خللاً في عمل مؤسسات الاتحاد الأوروبي وأدائها، وأن مآل المعاهدة الفشل، لأن البرلمان الأوروبي، الأكثر "مراعاةً" لانشغالات المواطنين الأوروبيين، وإن كان هو الآخر عرضةً لنفوذ مختلف جماعات المصالح، سيرفض التصديق عليها، إذا تضمنت بنوداً غير مقبولة أوروبياً.
الغريب أن تفاصيل المفاوضات (ما تم التوصل إليه والملفات العالقة) لم تأت من المفوضية الأوروبية، أو من الدول الأعضاء، بل وردت في وثيقة من 16 ملفاً (متوفرة بالإنجليزية على الموقع https://www.ttip-leaks.org)، سرّبتها منظمة السلام الأخضر يوم الاثنين الماضي، تضمنت تفاصيل بنود المفاوضات. كما كان متوقعاً، قللت المفوضية الأوروبية من شأن هذه الوثيقة، بحجة أن المفاوضات تقدّمت أشواطاً في بعض القضايا. أما الدول الأعضاء في الاتحاد، فأعرب بعضها عن عدم قبولها المعاهدة في شكلها الحالي، وكأنها تكتشف، ولأول مرة، مضامين المفاوضات. وبغض النظر عن محتوى هذه الوثيقة، فإن مجرد وجودها دلالة على استمرار الصراع بين جمعيات ومنظمات المجتمع المدني العالمي وجماعات المصالح القوية. وهو صراع كانت المظاهرات المناوئة لقمة منظمة التجارة العالمية في سياتل عام 1999 انطلاقتها الأولى.
يسوق كل طرف، مساند ومعارض للمعاهدة، حججه، فالطرف المساند لها، لاسيما المفوضية الأوروبية، يتحجج بعدد مناصب الشغل التي ستحدثها هذه المعاهدة وعوائدها على الاقتصاد الأوروبي. لكن معاهدات التبادل الحر عموماً، على الرغم من أنها اقتصادية، لها مضامين سياسية، تكون أحياناً أهم من العوائد الاقتصادية، فالمعاهدة الأميركية-الأوروبية تهدف، فيما تهدف، إلى تكوين كتلة اقتصادية ضخمة، بمقدورها الوقوف في وجه الصين. يعد هذا من أبرز شواغل أميركا التي تعمل على تطويق الصين اقتصادياً عبر الهادي (منطقة تبادل حر) وعبر الأطلسي (منطقة تبادل حر). ومن ثم، المعاهدة إجراء احترازي غربي، وأميركي تحديداً، لما قد يؤول إليه تنامي الاقتصادي الصيني عالمياً. هكذا تسعى الولايات المتحدة إلى تأمين الجبهة الاقتصادية الأطلسية في وجه الصين، بعد أن أمنت جبهة الهادئ الاقتصادية.
أما الطرف المعارض لها فيثير مخاطر إفراغ المعايير الأوروبية من محتواها، لاسيما في مجال
الأغذية، مركزاً على بعض المسائل التي تشغل الرأي العام: لحوم البقر التي غذيت بهرمونات النمو؛ الدجاج المغسول بالكلور، المواد المعدلة وراثياً... للتذكير، تسببت لحوم البقر التي غذيت بهرمونات النمو (الأميركية) في نزاع تجاري بين أوروبا وأميركا في تسعينات القرن الماضي، بتّت فيه منظمة التجارة العالمية في أكثر من مرّة، وتوصل الطرفان إلى اتفاق مبدئي في 2009، يقبل بموجبه الاتحاد الأوروبي استيراد اللحوم الأميركية الخالية من الهرمونات في مقابل رفع أميركا العقوبات التي فرضتها عليه كرد فعل على منع دخول لحومها الهرمونية السوق الأوروبية. ويتهم معارضو المعاهدة المفوضية الأوروبية بالتنازل عن بعض القضايا الأساسية، مثل مبدأ الاحتراز. وفحوى هذا المبدأ، المؤسس للقوانين الأوروبية، أنه، في حيال تعذّر اليقين، وفقاً للمعارف العلمية المتاحة حالياً، يتعين اتخاذ التدابير الاحترازية وقاية من المخاطر في مجالات البيئة والصحة أو التغذية.
من بين إشكاليات هذه المعاهدة، قضية التوفيق بين معايير متعارضة. فإذا كانت المعاهدة ستقود إلى اعترافٍ متبادلٍ بمعايير الطرفين، فذلك سيسبب تعارضاً مع المعايير المعمول بها لدى الطرفين، بل يفرغها من محتواها. كما أنه، في حال التوصل إلى اتفاق حول بعض القضايا، فذلك سيتطلب تغيير تشريعات الطرفين، قبل دخول المعاهدة حيز التنفيذ، ما يعني المخاطرة بإجهاضها، بالنظر للتبعات السياسية: تغيير التشريعات الأوروبية سيكون إقراراً بصواب موقف معارضي المعاهدة. وهناك قضايا خلافية ضخمة بين الطرفين ستؤخر، من دون شك، التوصل إلى اتفاق قبل نهاية عهدة الرئيس الأميركي أوباما، منها: الاستثمارات، السوق العام، حماية المعطيات الشخصية، القواعد المالية، محاكم التحكيم (للفصل في النزاعات التجارية بين الطرفين)، حماية الملكية الفكرية، لاسيما الرقمية.
بما أن المفاوضات تقوم على المقايضة والتنازلات المتبادلة، فإن كل طرف سيعمل على افتكاك إقرار الطرف الآخر بمعاييره مقابل تنازلات معينة، والعكس صحيح (فأميركا تطلب تنازلاً أوروبياً في مجال تشفير وحماية المعطيات الشخصية مقابل تسريع المفاوضات في قطاع الاتصالات). وستكون الكلمة الفصل في هذه اللعبة للطرف صاحب الموقف التفاوضي الأقوى. ويبدو أن الولايات المتحدة توظف في مفاوضاتها مع الأوروبيين معاهدة التبادل الحر بين ضفتي الهادئ التي توصلت إليها، أخيراً، مع 11 دولة مطلة على هذه المحيط، حيث تسعى إلى إدراج بعض قواعدها في المعاهدة الأميركية-الأوروبية للتبادل الحر، محددة سقف التفاوض: المعاهدة عبر الأطلسي لا يمكن أن تكون أقل طموحاً من المعاهدة عبر الهادئ.