في أن دولة الفقهاء ليست دولة دينية

في أن دولة الفقهاء ليست دولة دينية

26 فبراير 2016

كتاب "دولة الفقهاء" عودة لتحليل مقولات السياسة الشرعية

+ الخط -
شكّل فقه السياسة الشرعية، عبر التاريخ الإسلامي، واحداً من سجلات الإنتاج الفكري في أمور وقضايا "السياسة"، وإذا كانت أنماط أخرى من القول في هذا الموضوع قد جاورته، أو نافسته، في هذا المضمار، مثل الآداب السلطانية أو الفلسفة السياسية، فإنه قد تميّز عن سواه بدرجة القرب التي تطبع منتجيه (أي الفقهاء) مع الموضوع السياسي، وهو ما سمح له بالتحلّل من المثاليات التي تطبع عادة رؤية أهل الكلام والفلاسفة، وبارتباطه كخطاب برهان بناء مشروعية دينية للسلطة، وهو ما يجعله، بلغة أخرى، محاولة للجواب على أزمة مشروعيةٍ ظلت تحاصر"الدولة" عبر التاريخ الإسلامي.
ثمّة في كتاب الباحث المغربي، نبيل فازيو، "دولة الفقهاء: بحث في الفكر السياسي الإسلامي"، الصادر أخيراً عن منتدى المعارف في بيروت، عودة فكرية عميقة لتحليل مقولات السياسة الشرعية وخطاباتها. وهذا الإصدار محاولة للتفكيك التاريخي لخطاب الفقهاء وتمثّلاتهم للسلطة والدولة، بعيداً عن القراءة الأرثوذكسية للتراث، وبعيداً عن المقاربة الاستشراقية، واعتماداً على استدعاء مكتسبات الفكر السياسي الحديث بروافده وآليات تحليله.
سبق لعبدالله العروي أن انتبه إلى أن غزارة الإنتاج الفقهي، في باب السياسة الشرعية، مجرد معادل موضوعي لضعف تناولهم طوبى الخلافة: إن الفقهاء يتحدثون كثيراً عن السياسة والدولة القائمة، ويتكلمون قليلاً عن المثل العليا، وهو ما يفيد بأن الأنظمة التي يعيشون فيها لا علاقة لها بالنموذج المتخيّل للدولة الإسلامية. أما محمد عابد الجابري فلم يعر اهتماماً كبيراً لهذا الفقه، معتبراً أنه مجرد محاولات في التبرير الأيديولوجي.
وإذا كان باحثون آخرون قد تناولوا نماذج من المتن الفقهي للسياسة الشرعية، مثل سعيد بنسعيد العلوي الذي اشتغل على كتابات الماوردي، متأملاً تحوّل الفقيه إلى مفكر سياسي، وتحوّل الفقه إلى مسوّغ لفكرة سياسية حول السلطة والدولة.
ضمن هذا الأفق، وبمقاربة أكثر شمولية وتركيبية، يقف الباحث الشاب، على اهتمام المقالة الفقهية بشروط الإمامة، من خلال المزاوجة بين منطق التبرير الاستنباطي ونفحة الواقعية التي تنظر إلى الحكم من زواياه الأكثر إجرائية وفعالية، والتي أسهمت في بناء نظامٍ من القول يسمح بالتقاط متغيّرات الواقع، ونسبية التاريخ، وممكنات السياسة، ويبتعد بمساحات واسعة عن الثابت والمطلق والنهائي. على أن معالجته المنجز الفقهي في باب السياسة الشرعية ستبدو أكثر إثارة للانتباه وأهمية، عندما سينحاز إلى مقاربة تمثلات الفقهاء لدينامية السلطة في مستوياتها الماكرو - اجتماعية، منتقلاً من بحث قواعد المشروعية وشروط الإمامة والولاية، وما يتفرّع عنها من سلطاتٍ، إلى تناول الممارسة السلطوية في تجلياتها الاجتماعية، عبر رصد لحضور السلطة في المجالات الثلاث: الضريبية، الرقابية، العقابية.
يصل بعد ذلك صاحب "دولة الفقهاء" إلى عقدة الإشكاليات التي اشتغل عليها الفكر العربي
المعاصر، المتمثلة في جدلية الديني والسياسي، لكي يُسائل فقه السياسة الشرعية من زاوية مدى استبطانه رؤية دينية للدولة، ليخلص إلى أن المحدد الأكبر للخطاب الذي أنتجه الفقهاء، في التجربة السياسية الإسلامية، تجلى في الواقعية التي وسمت رؤية الفقه للشرط السياسي والتاريخي ولمتغيّراته. قاد "التورّط السياسي" للفقهاء، وهم ينتجون قولاً في قضايا التدبير الدنيوي، إلى انزياح خطابهم من مثاليات "الخلافة" إلى ضرورات المصلحة، وإلى الانتقال من الاكتفاء بمفهوم الشرع إلى الحاجة إلى التشريع، وإلى التحوّل من عناوين قضايا الإمامة و"الخلافة الإسلامية" إلى تفاصيل الشرط القانوني للوجود الاجتماعي والسياسي للمسلمين.
هذا النفس "الدنيوي" والزمني لخطاب السياسة الشرعية لا يلغي، مع ذلك، الانتباه إلى سقف هذا الخطاب وحدوده، إذ إن النفحة الواقعية في مقاربة أمور الدنيا لم يكن من الممكن أن تصل إلى حدود الإعلان عن خيار الفصل النهائي بين السياسة والدين، على الرغم من تقبّل الفقهاء، مثلاً، إمكانيات الفصل بين السياسة والأخلاق، بل وعلى الرغم من وقوفهم على مشارف القناعة بأن مشروعية الدولة قائمة من وجودها نفسه، ومن مهامها الطبيعية، حيث "الملك الطبيعي" هو حقيقة كل دولة، حتى ولو كانت "دولة الإسلام".
في النهاية، وقف الفقه على جعل السياسي والديني طرفين في معادلة المشروعية، وهي المشروعية التي تماهت، في منطقهم، مع قواعد الشرعية الدينية. وإذا كان هذا التماهي يشكل أحد حدود خطاب الفقهاء حول جدلية الديني والسياسي، فانه يبدو، من جهة أخرى، أمراً طبيعياً من زاوية استحضار الموقع "الديني" لإنتاج هذا الخطاب، وهو موقع السلطة الثقافية التي تفترض ممارسة رقابةٍ معياريةٍ للسلطة السياسية، من دون أن تتحول، بالضرورة، إلى سلطة دينية، وهو ما شكل أحد ثوابت السياق الإسلامي السني الذي لم يعرف داخل هرمية السلطة مقابلا للإكليروس.
استحضار فقيه السياسة الشرعية أزمة المشروعية السياسية فرضيةً محددة لخطابه، جعله يربط بين التفكير في المشروعية والتفكير في الإصلاح. وهنا، فإن النظر الفقهي في مقولات الإصلاح سيرتبط، من جهته، بفكرة مركزية هي فكرة العدل.
في سياق النظر الفكري لقضايا النهضة والتقدم، وأسئلة التراث والتاريخ، يبدو كتاب "دولة الفقهاء" منخرطاً في جهد معرفي، موصول لقراءة التراث، انتصاراً لرؤيةٍ لا ترى في الحداثة مجرد قطيعة عقدية سهلة مع الماضي، بل تخال الطريق الصعبة إلى تخومها ومداراتها يمر، بالضرورة، عبر نقد التراث.
أما في السياق السياسي لتلقي الكتاب، فإن هذا المؤلف يعتبر محاولة ذكية للتحييد الموضوعي لاستراتيجيات الاستعمال الإيديولوجي والاستثمار السياسي التي تحاول استدعاء فقه السياسة الشرعية ومقولاتها، لبناء أفق سياسي، يكثفه شعار "الدولة الإسلامية".

2243D0A1-6764-45AF-AEDC-DC5368AE3155
حسن طارق

كاتب وباحث مغربي