السقوط في حفرة

السقوط في حفرة

15 فبراير 2016
+ الخط -
أكثر ما كان يخشاه صديقنا الصحفي الذي اختفى في أحد المطارات العربية، قبل شهرين، أن يقوده حظه العاثر يوماً، إلى السقوط في حفرة امتصاصية، خصوصاً في فصول الشتاء التي تستحيل فيها الشوارع إلى أنهار متدفقة من مياه الأمطار، فيضطر رجال البلديات إلى فتح أغطية تلك الحفر، لتصريف المياه.
وكان لخوف صديقنا ما يبرّره، في الواقع، ذلك أن هذه الحفر تشبه المصائد بفوهاتها المشرعة، منتظرة فرائسها بصبر بالغ وشغفٍ مرعب، والأخطر من ذلك أن كثيرين من ضحاياها يختفون، ولا يعرف عنهم "حسّ ولا خبر"، على الأغلب، باستثناء أصحاب الجثث المحظوظة التي قد يقودها حسن طالعها للطفوِ على سطوح الأودية خارج المدينة.
ولأن "من يخافْ من البعبع بطلعله"، على حد تعبير المثل الشعبي، فقد سقط صديقنا في سلسلة من الحفر "الامتصاصية"، منذ بدأت عيناه تتفتحان على محيطه المكتظ بالفخاخ، فكان أول وقوعه في حفرةٍ امتصت أحلامه الأولى، بعد تخرجه من الجامعة، حين كان يعتقد أن مهنة الصحافة رسالة، سيغيّر بها العالم من حوله، وما هي إلا سنوات، بعد أن ضاقت عليه أبواب الصحف، واكتشف فضاءها الموبوء بالنفاق والفساد، وتلميع وجوه الطغاة والمستبدين، ومسح الأقدام وانتظار الأعطيات والهبات.. حتى وجد نفسه موشكاً على الاختناق، في هذه الحفرة الضيقة.
في موازاة، ذلك، كانت هناك حفر تمتص حريته التي ظنها عصيّة على الامتصاص، فأصبح يحاذر المرور من أمام حفر الدوائر الأمنية كلها، على اعتبار أنها تقود إلى حفرة كبرى كالأخدود، قابعة في الظل، وتحرّك خيوط الحياة السياسية كلها من بعيد.
وبعد أن اكتشف صديقنا مزيداً من الحفر الامتصاصية، مع كل يوم يمر عليه، منها حفر البطالة والفقر، وحفر الأعراف المجتمعية الخانقة، وكلها كانت تمتص نصيبها من جسده وأحلامه، قرّر الرحيل إلى بلاد أخرى، قيل له إنها تخلو من "الحفر الامتصاصية"، فصدّق الكذبة، مدفوعاً للنجاة بما تبقى له من فلول أحلام وأوهام، غير أن سوء حظه أسقطه ثانية في حفرة امتصاصية جديدة، في بلادٍ ترفع شأن العمران على حساب الإنسان، فاختفى صديقنا مثل "فصّ ملح وذاب"، على اعتبار أن الإنسان العربي، عموماً، ليس أكثر من "فصّ ملح".
الأنكى من هذا وذاك أن بعضهم ما يزال يحاول التخفيف من مصطلح "الاختفاء"، حين يشير إلى أن صديقنا تم "اعتقاله" في المطار، ولا غرابة ما دمنا لم نتحرّر بعد من عقدة "التلميع"، وكأنهم يريدون إقناعنا بأن ما حدث يشبه ما نشاهده في الأفلام الأجنبية، حين يقرع رجال شرطة أنيقون، بأدب جمّ، جرس المستهدف بالاعتقال، ويقفون جانباً، بانتظار أن يفتح لهم الباب، فيسردون عليه سائر حقوقه، ما علم منها وما جهل، ثم يسألونه إن كان يرغب بحضور محاميه. وأنا على ثقةٍ بأن صديقنا لو سمع رواية "الاعتقال" لاعتبر نفسه قد سقط في حفرتين امتصاصيتين معاً، الثانية منهما أشد بلاء من الأولى.
الأجدى، إذن، أن نصرّ على أن صديقنا "اختفى"، ولا ضير من أن نعترف، كذلك، بأننا جميعاً مشاريع فرائس قابلة للاختفاء والامّحاء في "خريطة برمودا" العربية، وبأننا لسنا أكثر من أشباح في بلاد لا تقرع الأجراس، ولا تطرق الأبواب، بلاد يمسي فيها المجرم بريئاً، ويصبح فيها البريء مجرماً، بلادٌ يكون أقصى أحلام قتلاها أن يعرفوا سبب موتهم، والمعتقلين مسوغات اعتقالهم.
على هذا المنوال، لن نستغرب اختفاء صديقنا، ولن نعجب من مضي شهرين على اختفائه، من دون معرفة "الأسباب"، بل كل ما نأمله أن يخرج صاحبنا من سجنه، كما خرج من وطنه، ولو بفلول أحلامٍ باهتةٍ، لعله يتحرّر يوماً من عقدة "الحفر الامتصاصية".




دلالات

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.