موسكو الروسية على خطاها السوفييتية

موسكو الروسية على خطاها السوفييتية

09 يوليو 2015

تشكيلات من الجيش الروسي في احتفال يوم النصر (مايو/2015/Getty)

+ الخط -
باتت سيطرة روسيا على جمهورية القرم (ذات الحكم الذاتي) في أوكرانيا حقيقة، وأعاد دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا، قبل أكثر من عام، إلى الأذهان دخول القوات السوفييتية إلى أفغانستان عام 1979.
عوّل، آنذاك، رئيس الاتحاد السوفييتي، ليونيد بريجينيف،على ردة الفعل الضعيفة للرئيس الأميركي، جيمي كارتر، ولم يتوقع الصدمة الناجمة عن التدخل السوفييتي العسكري في أفغانستان. والعام الماضي، عول الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على ردة الفعل الضعيفة للرئيس الأميركي باراك أوباما. لكن، في ذلك الوقت، بدأ كارتر بحظر القمح عن الاتحاد السوفييتي، ونظم مقاطعة أولمبياد موسكو عام 1980، ثم زود خلفه رونالد ريغان الأفغان بالسلاح، وسلح الجيش الأميركي بطريقة غير مسبوقة.
وكانت ردة الفعل الروسية، من حيث التعامل مع الأزمة في أوكرانيا، مشابهة تماماً لما جرى في جورجيا القوقازية عام 2008، في تفاصيل كثيرة، حيث إنها فرضت سياسة الأمر الواقع على جورجيا في إعلان استقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عن جورجيا، والاعتراف بها دولاً مستقلة في ظل حماية روسية ومعاهدات بين الطرفين، وهذا ما تفيد الوقائع بأنه سيحصل في شرق أوكرانيا، في حين سارعت موسكو إلى الاعتراف باستفتاء استقلال شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا، وضمتها إلى الاتحاد الروسي، خصوصاً أنها تنظر إليها على أنها خاصرتها الرخوة في أوكرانيا. فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، تقلصت المساحة الجغرافية لروسيا على المنافذ البحرية. لذلك، تعد أبخازيا في جورجيا، وشبه جزيرة القرم في أوكرانيا التي تمتلك قاعدة للأسطول الروسي، ذات موقع استراتيجي مهم، كونهما على تخوم "الناتو"، وأظهرت التجربة أن روسيا لن تتردد، أبداً، في التذرع بالتدخل، تحت شعار حماية الجالية الروسية في أي بلد من دول الاتحاد السوفييتي السابق. فهل كان قرار بوتين إرسال قواته إلى شبه جزيرة القرم في أوكرانيا سوء تقدير استراتيجي من السلطات الروسية بشأن العواقب، التي يمكن أن تتنافس مع تداعيات غزو الاتحاد السوفييتي أفغانستان، والاعتماد على عجز الغرب؟
يمكن أن تنجح موسكو على المدى القصير في تقسيم أوكرانيا، ووضع حد لتاريخ 22 عاماً من سيادة دولة مجاورة. ولكن، في المستقبل، سيكون لهذه الخطوات تداعيات خطيرة على روسيا ككل، وعلى نظام بوتين خصوصاً.
وبينما يرى مراقبون كثيرون أوباما يشابه كارتر على مستوى التردد وعدم الكفاءة، فقد أعلن أوباما عدم الذهاب إلى قمة مجموعة الثماني في مدينة سوتشي الروسية العام الماضي، وإذا بوتين لم يتوقف، فإن عدوانه على أوكرانيا سيكلف روسيا أكثر وأكثر.

وبات واضحاً لمراقبين عديدين أنه سيكون لتحريك موسكو الروسية قوتها العسكرية في دولة مجاورة تداعيات خطيرة، قد تنافس تداعيات غزو موسكو السوفييتية أفغانستان، والذي انتهى بخروج موسكو من الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي. وهنا، لابد من الإشارة إلى تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي الروسي، أخيراً، وقبل أي غزو لأوكرانيا، وبعد أن أصبح النزاع المسلح حقيقة واقعة، فالسؤال هو: من الذي يريد أن يستثمر في روسيا؟
وسوف تستمر العقوبات الغربية على روسيا، بدون أدنى شك، وسيتم تشديدها اعتماداً على أن التدخل الروسي لم يقتصر على شبه جزيرة القرم، وبات موزعاً على كامل أراضي أوكرانيا.
عدا اجتياح جورجيا في عام 2008، والتورّط في النزاع الأوكراني 2014، وضمّ شبه جزيرة القرم إلى الأراضي الروسية، فقد عمد الروس إلى محاولة تحصين قوتهم الاقتصادية بالاستناد إلى قطاع الطاقة، بشكل أساسي.
و أثارت الأحداث في أوكرانيا، أخيراً، مخاوف كثيرة عند الأوروبيين، جعلتهم يعيدون التفكير في اعتمادهم على الغاز الروسي، ودفعهم ذلك إلى التخطيط لتسريع تنويع مصادر الطاقة. ومن المؤكد، الآن، أن أوروبا سوف تدعم بكل قوتها خط الغاز نابوكو الذي يمر من (باكو + تبليسي + جيهان).
تعتقد موسكو أن الكرملين يضغط على أوروبا وأوكرانيا، بسبب اعتماد كييف وبروكسل على الغاز الروسي، لكن الأمور تتغير، تكنولوجيا الإنتاج والمعروض من الغاز الطبيعي المسيل في الولايات المتحدة يتطور بوتيرة لا تصدق، وسيصبح في المستقبل بديلاً حقيقياً للهيمنة الروسية، كما أن (إسرائيل) قادرة على القيام بدور المصدر إلى أوروبا، وتتجه فرنسا وألمانيا، على الأرجح، إلى إزالة القيود المفروضة على تكنولوجيا الإنتاج من التكسير الهيدروليكي، للحد من الاعتماد على الطاقة الخاصة بها على موسكو.
وسيقوم الشركاء الدوليون لروسيا بالتقليل من حجم التجارة مع شركات من البلدان ذات النظام الحاكم الفاسد، حيث تتهم أوروبا روسيا بفساد إداري كبير، بالإضافة إلى أن اعتماد روسيا على النفط والغاز وغيرها من الموارد يعيق تنويع الاقتصاد الروسي، وتضرر العلاقات مع الغرب بشكل واضح، لا يساعد الإصلاحات في موسكو في الاتجاه المطلوب.
وسبق أن أوقف أوباما خطة نشر أنظمة الدفاع الصاروخي في جمهورية التشيك وبولندا، بسبب عدم إثارة أي خلاف مع موسكو، كما تم التضحية بفرصة زيادة الضغط على إيران. واليوم تعود واشنطن بسهولة إلى خطة توسيع البرنامج، وحتى بغض النظر من الموقف الروسي، والذي فقد مصداقيته في الأزمة الأوكرانية.
بالإضافة إلى وجود تداعيات كثيرة يمكن توقعها على موسكو، في حال استمر تدخلها العسكري في أوكرانيا، حيث سينظر إلى روسيا في الساحة الدولية شريكاً لا يمكن الاعتماد عليه وغير موثوق، وتميل إلى تجاهل القانون الدولي وتحقيق أهدافها باستخدام القوة.
كما يتوقع مراقبون عديدون موتاً لا مفر منه لمعاهدة الأمن الجماعي، والتي تضم (روسيا، كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان، أرمينيا، بيلاروسيا)، ولرابطة الدول المستقلة التي تضم دول الاتحاد السوفييتي السابق، ماعدا دول البلطيق وجورجيا التي انسحبت منها أكثر من مرة، فجميع الدول الأطراف في هذه الهياكل تدرك، الآن، أن روسيا لن تلتزم بأي اتفاقيات، وستتدخل عسكرياً في دولهم، إذا تضررت مصالحها.
ولا يمكن تجاهل أزمة "المشروع الأوراسي" بسبب انعدام الثقة في الجانب الروسي من جميع أعضائه، والتفكك التدريجي للكنيسة الأرثوذكسية الروسية للبطريركية في موسكو التي أيدت التدخل العسكري في أوكرانيا، بالإضافة إلى موقف سلبي من جميع البلدان على استيعاب القواعد العسكرية الروسية على أراضيها، وخسائر اقتصادية خطيرة طويلة الأجل، نظراً لعدم الثقة تجاه روسيا شريكاً مأمون الجانب، وتفاقم القضايا الداخلية في روسيا، بما في ذلك تعزيز النزعة الانفصالية الداخلية.
وسبق أن نقل عن فيدور لوكيانوف، رئيس تحرير مجلة روسيا في السياسة العالمية التي تصدرها الخارجية الروسية، قوله، إن قائمة العقوبات الغربية ستدفع بالأمور نحو الاشتباك في لحظة ما، وبحسب لوكيانوف، روسيا أمام لحظة مواجهة مباشرة وحقيقية لا مفر منها، هي لا تنوي الاستسلام، لا شعباً ولا قيادة، ويتابع: انتهت الحقبة التي عملت فيها روسيا على تأكيد اختلافها عن الاتحاد السوفييتي، واختلافها النوعي عن خصومها، في إشارة إلى إعادة رسم خريطة سياسية مشابهة للاتحاد السوفييتي، وهو ما أدى إلى نشر الكرملين قائمة من 89 أوروبياً ممنوعين من دخول الأراضي الروسية، بينهم شخصيات سياسية وأمنية، ردّاً على العقوبات الغربية.
ومن المُرجّح تطوّر الأزمة مع الغرب في الفترة المقبلة، مع إعادة فتح ملف استضافة روسيا كأس العالم لكرة القدم لعام 2018، في محاولة لسحب تنظيمه من موسكو، والتي تقودها بريطانيا إعلامياً وسياسياً والولايات المتحدة قضائياً. ويبقى القول، أياً كان موقفنا، إن موسكو الروسية، اليوم، تطمح للعب دور موسكو السوفييتية بالأمس بكل جوانبه، بغض النظر عن السلبيات والإيجابيات.