جورجيا القوقازية وصراع المستقبل
رغم مظاهرات حاشدة اسابيع، ضدّ قانون "التأثير الأجنبي" أو "العملاء الأجانب"، تبنّى، أخيراً، برلمان جورجيا (جنوب القوقاز)، مشروع القانون، وصوّت النواب في القراءة الثالثة والأخيرة بغالبية 84 صوتاً مُؤيّداً، في مقابل 30 صوتاً معارضاً على مشروع القانون، وسيُلزم هذا التشريع أيّ منظّمة غير حكومية أو مؤسسة إعلامية تتلقّى أكثر من 20% من تمويلها من الخارج بالتسجيل، باعتبارها "منظّمة تسعى إلى تحقيق مصالح قوة أجنبية".
ورفض المتظاهرون، فترة طويلة، مشروع القانون المثير للجدل، الذي تُؤيّده الحكومة، وتعرّض لانتقادات الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي، إذ يقول منتقدو النصّ إنّه مُستلهَمٌ من القانون الروسي بشأن "العملاء الأجانب"، ويهدف إلى إسكات المعارضة، وقد يُؤثّر على طموح البلاد في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بينما تُؤكّد الحكومة أنّ هذا الإجراء يهدف إلى إجبار المنظّمات على إظهار قدرٍ أكبرَ من "الشفافية" في ما يتعلق بتمويلها. كما ندّدت المعارضة بمشروع القانون ووصفته بأنّه "قانون روسي"، لأنّ موسكو تستخدم تشريعات مماثلة لقمع وسائل الإعلام الإخبارية المستقلّة، والمنظّمات غير الربحية، والناشطين الذين ينتقدون الكرملين، بينما تقول الحكومة إنّ مشروع القانون ضروريّ لوقف ما تعتبره نفوذاً أجنبياً ضارّاً على سياسة البلاد، ولمنع جهات أجنبية، غير محدّدة، من محاولة زعزعة استقرارها، وأنّه على غرار تشريع أميركي أُقرّ في ثلاثينيات القرن الماضي.
يُعاني مشروع القانون الجديد من غموض المصطلحات، وعدم وضوحٍ في تعريف "العملاء الأجانب"، ونطاق تمويلهم الخارجي، مما يُثير قلقاً من إمكانية استخدامه بشكل تعسفي
تشهد جورجيا منذ فترة طويلة استقطاباً سياسياً حاداً بين الحزب الحاكم (الحلم الجورجي) والمعارضة، وساهمت هذه التوترات في تأجيج الغضب الشعبي ضدّ مشروع القانون، بالإضافة إلى الظروف الاقتصادية، إذ يعاني الاقتصاد الجورجي من ركود، مما زاد من الاستياء العام، وساهم في شعور البعض بأنّ الحكومة لا تهتم باحتياجاتهم. يُشكل قانون "العملاء الأجانب" تحدّياً كبيراً للديمقراطية في جورجيا، ويعتمد مستقبل البلاد على كيفية تعامل الحكومة مع هذه الأزمة، وفشلها في معالجة مطالب المُحتجّين، قد يجعلها تواجه المزيد من الاضطرابات وعدم الاستقرار، مما يُهدّد مستقبل البلاد وتطلّعاتها الأوروبية، والمضي قدماً في خطط الحكومة قد يفقدها دعم الغرب، وأكّد متحدّثٌ باسم الاتحاد الأوروبي أنّ اعتماد هذا القانون سيشكّل "عقبة خطيرة" أمام انضمام جورجيا إلى الاتحاد.
يُثير هذا القانون قلقاً واسعاً بين أوساط الشعب الجورجي، لأسباب مُتعدّدة، تشمل مخاوف من قمع الحرّيات، إذ ينصّ مشروع القانون على تصنيف المنظمات غير الحكومية والمنظمات الإعلامية، التي تتلقّى أكثر من 20% من تمويلها من جهات خارجية "عملاء أجانب"، ويرى منتقدو القانون أنّ ذلك سيُستخدم أداةً لقمع المنظّمات المستقلّة، وتقييد حرّية التعبير، بالإضافة إلى مخاوف من تأثيره على العلاقات مع الغرب، وتخشى جورجيا، التي تسعى جاهدة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، من أن يؤدي هذا القانون إلى عرقلة تقدّمها على مسار التكامل الأوروبي، ويُنظر إلى القانون على أنّه خطوة نحو روسيا، التي تطبق قوانين مشابهة للحدّ من نفوذ المنشقين أو المعارضين للكرملين، وسبق أن حثّت الولايات المتحدة جورجيا على "الاختيار بين قانون على نمط الكرملين وتطلعات الشعب".
ما تشهده جورجيا اليوم إشارات إلى الصراع نحو التوجّه المستقبلي للبلاد، بين الراغبين بالالتحاق بالمنظومة الغربية، وعدم الراغبين بتوتير العلاقة مع الجارة روسيا
ويُعاني مشروع القانون الجديد من غموض المصطلحات، وعدم وضوحٍ في تعريف "العملاء الأجانب"، ونطاق تمويلهم الخارجي، مما يُثير قلقاً من إمكانية استخدامه بشكل تعسفي لاستهداف أيّ منظمة أو فردٍ ينتقد الحكومة، وأدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة مشروع القانون، مُحذرين من تأثيره السالب على الديمقراطية وحقوق الإنسان في جورجيا. ويرى كثيرون أنّ تبني القانون هو محاولة من قبل الحكومة الجورجية لتقويض العلاقات مع الغرب، وإعادة البلاد إلى مجال النفوذ الروسي، ومن المرجّح أن تنظر روسيا إلى الاحتجاجات، في حال استمرارها، على أنّها فرصة لتقويض نفوذ الغرب في جورجيا، وقد تُحاول استغلال الوضع لزيادة تأثيرها على البلاد. صحيح أنّه لم يصدر عن موسكو أيّ تعليق رسمي على مشروع القانون، لكن يُعتقد أنّها تدعمه سرّاً، إذ يتماشى مع جهودها لتعزيز نفوذها في المنطقة. يرتبط الصراع الجاري بتوترات جيوسياسية أوسع، فتسعى جورجيا إلى التوازن بين علاقاتها مع روسيا والغرب، وتعتبر روسيا جورجيا ضمن مجال نفوذها، بينما تسعى جورجيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، ولا تزال الأوضاع في جورجيا متقلّبة، ومن الممكن أن تستمر الاحتجاجات، مع احتمال تصاعد حدّة التوتّر، ولا سيما مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية، إذ تمرّ جورجيا بمرحلة حسّاسة، فمن المقرّر أن تُجرى انتخابات تشريعية في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، يُنظر إليها على أنّها اختبار مهمّ للزعماء الحاليين.
ويتوقّع أن تستخدم رئيسة البلاد حقّ النقض (فيتو) ضدّ القانون، لكن حزب الحلم الجورجي الحاكم يتمتّع بأغلبية مُريحة في البرلمان، ما يسمح له بتمرير القوانين، والتصويت ضدّ الفيتو الرئاسي من دون الحاجة إلى دعم أيّ من نواب المعارضة. ويُعدّ الوضع حساساً في جورجيا، التي تتأرجح بين النفوذ الروسي والأوروبي، وخاضت حرباً قصيرةً مع روسيا في عام 2008، فقدت على إثرها إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، اللتين أعلنتا نفسيها جمهوريتيْن مستقلتيْن، يعترف بهما عدد محدود من الدول، وتحظيان بحماية روسيا.
يبقى القول؛ ما تشهده جورجيا اليوم إشارات إلى الصراع نحو التوجّه المستقبلي للبلاد، بين الراغبين بالالتحاق بالمنظومة الغربية، وعدم الراغبين بتوتير العلاقة مع الجارة روسيا، وتعتبر الحكومة أنّ هناك تدخّلات خارجية خلف الاحتجاجات، وستزداد مع اقتراب الانتخابات البرلمانية، بسبب موقفها المُحايد من روسيا، في ظلّ الحرب في أوكرانيا، وهنا تكمن أهمية شفافية التمويل الأجنبي.