غرداية.. لعن الله من أيقظ الفتنة

غرداية.. لعن الله من أيقظ الفتنة

11 يوليو 2015

اشتباكات في غرداية في مارس 2015 (ا ف ب)

+ الخط -
بدت الحالة في غرداية خارجة عن كل سيطرة، في واحات ميزاب قتل 22 جزائريا في 48 ساعة فقط. مواجهات شرسة في حواضر القرارة بريان وغرداية بين مجموعات من السكان المنتمين إلى قبيلة الشعانبة العربية المالكية، والسكان المنتمين إلى بني ميزاب الأمازيغ الإباضيين.
تتجدد المشادات، وتخلف قتلى وجرحى وخراب بيوت في شهر الصيام الذي تصفّد فيه الشياطين، غير أن شياطين الإنس لم تجد من يصفدها. تجددت المواجهات بحدة غير مسبوقة، فصل دام من فصول الفتنة النائمة التي اندلعت منذ سنتين. كل محاولات الصلح باءت بالفشل، عجز الأعيان، وعجزت السلطات المحلية والأمنية عن إعادة الأمن، السلطة المركزية هي الأخرى بقيت مكتوفة الأيدي أمام ثلة من الملثمين، يحرقون الواحات والدكاكين، يهجرون السكان ولا يتورعون في القتل. إجراءات التهدئة التي اتخذتها السلطة المركزية لم تُجدِ نفعا، فهناك من ينفخ في الكير، لكي تكبر الأزمة في غرداية، وينتشر أوارها في الجزائر كلها، لا قدر الله.
لم تنجح عشرات الزيارات لمسؤولين جزائريين كبار في إنهاء الصراع في غرداية، تعاقب على الأزمة ثلاثة وزراء داخلية منذ 2013. زارها الوزير الأول، عبد المالك سلال، فلم تفلح هذه الزيارات في تهدئة الحال. صار بعضهم يتحدث في مواقع التواصل الاجتماعي عن "سوء طالع" يجلبه هؤلاء المسؤولون إلى المدينة، إذ ينفلت عقال الأوضاع بعد كل زيارة لأحدهم، وتشهد المنطقة حالة تأزم ومواجهات، ارتفعت حدتها، أخيراً، واستُبدلت فيها أسلحة الطوب والحجر بأسلحة نارية حقيقية، لا يعرف مصدرها ولا من أين أتت.

يتكرر الخطاب نفسه مع كل مواجهة. دعوة للتهدئة توجه في لقاء مع أعيان المدينة من الطرفين، الإباضي والمالكي، ثم التحذير من أن الدولة لن تسمح بممارسات الفتنة والاستفزاز المتبادل الذي يشعل فتيل المواجهة. وقع أعيان المنطقة قبل سنتين على وثيقة صلح، يبدو أنها كانت شكلية لم تعالج جذور الأزمة. يغيب "مجلس الحكماء" في أتون فتنة قاتلة، تستغل الأحزاب الفرصة لتكيل للحكومة تهماً بالتقصير في حل أزمة أصبحت تشكل خطرا على الأمة الجزائرية . اعتمد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أسلوب الوعظ في أول تعامل له مع الأزمة، فدعا عبر بيان مجلس الوزراء، في 30 ديسمبر/كانون أول 2013، إلى "ترجيح قيم التسامح والوئام والحوار التي يحث عليها ديننا الحنيف وفضائل التضامن والوحدة العريقة في بنية مجتمعنا". لم يكلف الرئيس نفسه عناء استقبال ممثلين عن المدينة، بعد أن استنفدت أوراق كل المسؤولين الذين أوفدهم، لم يغير أسلوب الوعظ الذي يستعمله من وضع المدينة الأليم شيئاً، وبقي بركان غرداية يهدأ حينا وينفجر حينا آخر.
لم تتوقف أعمال العنف في مدن ولاية غرداية منذ قرابة سنتين، شهدت خلالها المنطقة تعزيزات أمنية مكثفة، من جيش ودرك وشرطة. نصبت كاميرات مراقبة، وشكلت خلايا أزمة وغرف عمليات، وظل منطق عدم الاستقرار جاثما على المنطقة، فهل تمثل المقاربة الأمنية الحل الملائم للمشكلة، أم أن الأزمة تقتضي حلولاً سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية.
لم يكن اختلاف المذهب بين المالكيين والإباضيين مشكلة في الجزائر، منذ الفتح الإسلامي لمنطقة المغرب، فلقد عبد الناس رباً واحداً لا شريك له، اجتهدوا في ذلك وصدقوا، تعايشوا، تراحموا، تكاتفوا. تأسست دولة الرستميين الإباضية، وامتد نفوذها من عاصمتها تيهرت، مدينة تيارت الحالية، إلى جبال نفوسة في ليبيا. حكمت فترة وسادت، ولم يفسد الاختلاف للود قضية. تأسست ممالك مالكية أخرى، وبقي العقل راجحا في كل الأحوال.

جاء الاستعمار الفرنسي متدخلا في كل أمر، حجر طويلا على الفكر، حجز الكتب، همّش أهل العلم. وقف له الرجال بالمرصاد، حمى الأمازيغ في بني ميزاب اللغة العربية، فسر الشيخ إبراهيم بيوض القرآن الكريم تفسيراً مستفيضاً. نهل أهل غرداية من معين الوطنية، صدح شاعر الثورة، مفدي زكريا، ببطولاتها وأمجادها، فاخر بالجزائر، بسهولها وجبالها وأنعامها.
عاش الناس عربا وأمازيغ في غرداية عيشة هنية، وفي وفاق تام. اشتغلت مجالس العلماء بالاختلافات الفقهية، فاختصت بها دون غيرها، وقاد العامة حياتهم في دعة وبساطة. وقبل سنتين، أطلت الفتنة برأسها الخبيث. أصل الحكاية، كما سردها لي أكثر من مصدر ذي ثقة، تناطح مصالح مادية تجارية، فسوق غرداية العامرة جذبت إليها المنتفعين من عرب وأمازيغ. تطور المشهد الدرامي، ونفث فيه الشيطان سمومه، من زقاق كان يسكنه اليهود قديماً، ومازال يحمل شعبياً الاسم نفسه، دخل تجار المخدرات على خط الفتنة. ولإبعاد الشبهة عن نشاطهم، تحول الأمر إلى خطاب طائفي، في ظل فساد سلطات محلية عديدة توزع الريع من دون عدل، وتعطي للمحسوبية والعلاقات الأسرية اليد الطولى في الاستحواذ على المساعدات والمعونات التي تقدمها السلطة المركزية، في إطار سياسة شراء السلم الاجتماعي، اعتقاداً منها أنها بذلك تتقي شرارة الثورة عليها.
لم يأخذ الحل الأمني مداه، فبقي معلقا بين ناري عدم العقاب والفتنة التي استسهلت العبث بأرواح الناس وممتلكاتهم، فمن غير الممكن مواجهة أعمال العنف الطائفي في غرداية بالوسائل المتوفرة في الوقت الحالي، وبالتعليمات التي تخضع لها وحدات التدخل التابعة للدرك والشرطة. تعليمات تصب كلها في ساقية التهدئة الهشة. يطارد أفراد الأمن المتناوشين، يفصلون بين الفريقين، وما أن تسكن الأجساد، حتى تعاود النفوس الشريرة دفعها إلى الاقتتال من جديد، ليجد أعوان الأمن أنفسهم في كماشة هوشة لا يطيقون لفكاك منها سبيلاً. لا تُكمل العدالة مسيرة التسوية، يتم إطلاق سراح بعض ممن تم القبض عنهم، وتعود "حليمة إلى عادتها القديمة"، بفعل دعوات سلفية تكفيرية، تنامت منذ تسعينيات القرن الماضي، ودخول أحزاب سياسية جهوية ومناطقية على الخط. ولو قدر للقضاء أن يأخذ مجراه بحزم وعدالة، لتم تجاوز مشكلات ومعضلات كثيرة.
لم تعد تكفي مناشدات العقلاء ورجال الدين إذن، والأمر يتطلب حزمة من الإجراءات، يكون أولها أمنيا بالضرورة، فالناس بحاجة إلى عودة السكينة والهدوء لتأمين أرواحها وممتلكاتها، على أن تتبعها إجراءات تدعم هذا المسار، تأخذ العدالة مجراها، تُعاد الحقوق إلى أصحابها، وتعود هيبة الدولة لتجفف منابع التطرف من الطرفين.
تجمّع مئات المواطنين، في الجزائر ووهران، للتنديد بالأحداث التي تشهدها مدينة غرداية، والمطالبة بتدخل الدولة لإحلال السلم. كان من بين الواقفين في وهران نور الدين الهاشمي، والد أحد القتلى في مدينة الڤرارة، تخلف عن جنازة فلذة كبده، بسبب غلق الطريق والخوف من التعرض للاعتداءات. كفكف الرجل دموعه، وقال: نحن مسلمون ومسالمون. أعقبت ذلك صيحات الجموع من ورائه "لا لتقسيم الجزائر.. لا للإرهاب".








خليل بن الدين
خليل بن الدين
إعلامي جزائري، من مواليد 1962، عمل في الصحافة المكتوبة، وفي التلفزيون الجزائري، وأستاذا مشاركا في قسم الإعلام جامعة وهران، وعمل في تلفزيون دبي كبير مراسلين ومشرف نشرات، ويعمل حالياً في قناة الجزيرة.