وماذا عن الصين؟

وماذا عن الصين؟

03 يونيو 2015

استعراض عسكري في بكين (1مايو/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
بخلاف الموقف الروسي الذي تحظى مواقفه من أزمات المنطقة العربية، خصوصاً في مجلس الأمن، باهتمام إعلامي كبير، لا يوجد اهتمام مماثل بالموقف الصيني، وباستثناء كتابات إعلامية مبعثرة، لا يلامس أكثرها جوهر الأسباب التي تدفع بكين إلى تبني سياسات معارضة في العموم لثورات الربيع العربي، وللاشتراك مع روسيا في استخدام الفيتو عدة مرات في مجلس الأمن لمنع صدور قرار حول سورية خصوصاً، يظل الموقف الصيني غامضاً إلى حد بعيد، وهو يعكس، أيضاً، حرصاً صينياً على البقاء في المقاعد الخلفية، وعدم إثارة كل الضجيج الذي يعمد الروس إلى إثارته، للتأكيد على أنهم لم ولن يستسلموا لفكرة أنهم ما عادوا قوة عظمى في العالم.

وحتى نقترب من فهم السياسة الصينية في المنطقة العربية، يجب الانتباه، أولاً، إلى أن الموقف الصيني لا ينبع من أي اهتمام بحيثيات الربيع العربي، خصوصاً الأزمة السورية، كما أنه لا يرتبط، بخلاف الموقف الروسي، بوجود مصالح معينة لبكين في سورية، إنما ينطلق، بشكل رئيس ومباشر، من طبيعة العلاقات الصينية المعقدة مع واشنطن، والشعور المتنامي لدى بكين بالتهديد من السياسات التي تنتهجها الولايات المتحدة تجاهها، والميل إلى استخدام كل ما من شأنه إضعافها وعزلها، باعتبارها تمثل التحدي الاستراتيجي المستقبلي الأكبر لموقع واشنطن قوة أولى في العالم. وقد تزايد الشعور مما تعتقده بكين استهدافاً متنامياً لمصالحها من إدارة الرئيس باراك أوباما التي عادت تركز على الصين، بعد أن غابت طويلاً عن الأجندة الأميركية خلال حكم إدارة الرئيس جورج بوش الابن التي جعلت كامل اهتمامها ينصب على "الحرب على الإرهاب"، وعلى ميادينها الرئيسة، في الشرق الأوسط خصوصاً، والعالم الإسلامي عموماً.

وإذا دققنا في مصالح بكين الاستراتيجية الكبرى، نجد أنها تتمحور حول ثلاث نقاط رئيسة، تشكل مجتمعة منطق وجود الصين نفسها دولة، وهي: أولاً، الحفاظ على الاستقرار الداخلي. وثانياً، ضمان تدفق صادراتها إلى العالم في مقابل الحصول على احتياجاتها من مصادر الطاقة الضرورية لعمليات الإنتاج والتصنيع. وأخيراً، الاحتفاظ بالسيطرة المطلقة على المناطق العازلة الواقعة تحت حكمها، لحماية أمنها المباشر من أي تهديد قد يشكله جيرانها عليها. جميع هذه المصالح، كما ترى بكين، معرضة للاهتزاز، لأسباب ترتبط، مباشرة أو مداورة، بحقيقة السياسات الأميركية تجاهها، والتي قد يشكل الربيع العربي منفذاً للنيل منها.

فالاستقرار الداخلي أصبح أكثر عرضة للاهتزاز، نتيجة التفاوت الطبقي والاجتماعي الكبير بين مناطق الساحل الشرقي من جهة، حيث التركز الهائل للثروة (حتى يخال المرء نفسه يعيش في حواضر الغرب الكبرى كما يتبدى ذلك واضحاً في شنغهاي مثلاً)، في مقابل داخل صيني يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة الحديثة، حيث تغيب التنمية، وينتشر الفقر على نطاق واسع. والمعروف أن نحو 900 مليون من أصل 1.3 مليار صيني يعيشون تحت خط الفقر الأدنى، والذي يقدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بدولار واحد يومياً. خلال العقود القليلة الماضية، حاولت الحكومة المركزية استخدام الموارد المالية الهائلة، المتأتية من فوائض التصدير، لإيجاد فرص عمل لمئات الملايين من الصينيين، لكن الأجور المنخفضة لم تساعد على انتشال الكثير منهم من أحضان الفقر والتحول نحو نمط حياة استهلاكي، يقلل من الاعتماد على التصدير. إضافة إلى ذلك، أدت الأزمات المالية المتلاحقة التي ضربت عموم الغرب، وكان آخرها أزمة الديون اليونانية، والانخفاض الكبير في قيمة اليورو، إلى خفض نهم الأوروبيين للبضائع الصينية، الأمر الذي نتج عنه إغلاق مصانع عديدة، وتسريح عمالٍ كثيرين في أقاليم صينية مختلفة، وهو ما كانت تخشى
الحكومة في بكين من أن يؤدي إلى اضطرابات داخلية واسعة، بوحي من ثورات الربيع العربي. والواقع أن الصين تتشارك مع العالم العربي في أسباب كثيرة، تؤدي إلى تفجر الثورات، خصوصاً في ظل الفوارق الهائلة في الثروة والتنمية بين الساحل والداخل، علماً أن 0.2% من السكان يملكون 70% من ثروات البلاد. وبحكم التجربة التاريخية المريرة للصين مع الغرب، والتمسك المطلق بنظرية المؤامرة، تعتقد بكين أن واشنطن تشجع على ظهور حالات تمرد داخلي، تتغذى من تباطؤ عجلة النمو الاقتصادي الكبير الذي حققته الصين، خلال العقود الثلاثة الماضية، خصوصاً في ظل كتابات غربية، تتحدث عن هذه الاحتمالية، بعد وصول النموذج الصيني في التنمية إلى حدوده القصوى، واحتمال انفجار الفقاعة في وجه النظام المتلبرل اقتصادياً، الشمولي سياسياً.

كما تعتقد الصين أن تحول تركيز إدارة أوباما إليها من خلال زيادة التواجد العسكري الأميركي في محيطها، ومحاولة إنشاء تحالف معاد لها يضم جيرانها (الفلبين، إندونيسيا، تايوان، كوريا الجنوبية، اليابان، وحتى فيتنام) إنما يستهدف خنقها، والسيطرة على الخطوط البحرية التي تعتمد عليها، سواء في تجارتها مع العالم، أو في الحصول على إمدادات النفط الحيوية لاقتصادها، وهي مساع تصب في المحصلة باتجاه إضعاف الصين، والتحكم بسياساتها، وتشجيع الاضطرابات فيها.

أخيراً، تعاني الصين من صعوبات في استمرار التحكم باثنتين من المناطق العازلة التي تعتبرها حيوية لأمنها، وهما التبت وإقليم سينغيانغ (تركستان الشرقية) ذو الغالبية المسلمة. إذ تقاوم المنطقتان السيطرة الصينية عليهما، وتزعم بكين أنهما تتلقيان في ذلك دعماً من الولايات المتحدة، أو من حلفائها الإقليميين، مثل الهند في حالة التبيت، وتركيا التي تعتبر نفسها معنية، بشكل مباشر، بقبائل الإيغور المسلمة التي تعيش في تركستان الشرقية. الخوف الصيني من احتمال حدوث اضطرابات في هاتين المنطقتين تتغذى من وحي ما يجري في المنطقة العربية، وبتشجيع أميركي، كما تزعم، يعبر عن نفسه بشكل متزايد في تنامي الإنفاق العسكري الصيني، حتى تحولت الصين إلى ثاني أكبر موازنة عسكرية في العالم، بعد الولايات المتحدة. وقد أعلنت الصين، العام الماضي، عن أكبر موازنة عسكرية في تاريخها، حيث بلغت 132 مليار دولار، بحسب المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS).

هذا يقود إلى أن الموقف الصيني في مجلس الأمن، ومن الربيع العربي عموماً، غير مرتبط بحيثيات ما يجري في المنطقة العربية بشكل مباشر، أو الأزمة السورية خصوصاً، بل بالعلاقة مع واشنطن من جهة، وبوضع البيت الصيني الداخلي من جهة أخرى، وخصوصاً خوف بكين "المرضي" من انتقال الثورات إليها، ومن شرعنة أي تدخل دولي على أساس إنساني، قد يقود لاحقاً إلى التدخل في شؤون الصين الداخلية، أخذاً في الاعتبار ميلها إلى استخدام العنف المفرط للرد على أية حركة احتجاج مجتمعي. ومن خلال التضامن مع روسيا في استخدام الفيتو في مجلس الأمن، كانت الصين تحمي نفسها، أولاً، وتنبه الأميركيين، تالياً، إلى أنها ليست وحدها، في حلف "الممانعة"، أو الاستبداد العالمي.