جلال الطويل وصغاره المدهشون

23 مايو 2015

جلال الطويل في أحد أدواره الدرامية

+ الخط -
مستعيناً بثلاثين طفلاً من أبناء سورية وبناتها المهجرين، والمقطعة أطرافهم والمكسورة ألعابهم، المصادرة أحلامهم، المغدور مستقبلهم، المصابين حكماً برهاب الحرب، بفعل ممارسات نظام الوحشية والبطش والقتل الذي ما يزال يصفق له يسار غبي فاقد الأهلية، منزوع الإنسانية، يصم أذنيه عن معاناة المقهورين المعذبين في الأرض، وينحاز بدم بارد إلى طاغية كاسد قاتل، شرّد ملايين من أبناء شعبٍ حر عظيم، يتقن فن الحياة واجتراح شتى السبل إليها، كان كل ذنبه أنه جرؤ على الحلم بالخلاص من حكم مستبد خيّرهم منذ البدء بين صيغتين: بقاؤه وذريته من بعده زعيماً شمولياً مطلقاً حاكماً بأمره في جمهورية غرائبية أبديه خالدة، أو الخراب ملثماً حيناً ومعمَّماً أحياناً، أسود مأجوراً معتدياً باغياً أثيماً، بات معروفاً أنه يعمل بالقطعة لدى أنظمةٍ وأحزاب مشبوهة، تحكي باسم الله زوراً وبهتاناً، والزعيم ملتصقاً بكرسي الغدر، مغتصباً إرادة الأحرار، بمباركة قوى الظلم من أعداء الإنسانية والحياة، مثبتاً حقيقة وجوده بالتلازم مع الخراب: توأمان سياميان لا ينفصلان.
في مواجهة كل هذا القبح الدائر، انخرط جلال الطويل في تحقيق أهداف مشروع إنساني نبيل عنوانه "أثر الفراشة"، وموضوعه علاج الأطفال المنكوبين باستخدام أدوات المسرح التفاعلي والسايكو دراما، وتقديم عروض مسرحيةٍ، يذهب ريعها لأطفال سوريين مصابين بالسرطان، وكذلك لكفالة أيتام فقدوا ذويهم، وباتوا في العراء ينتظرون تحقيق عدالةٍ ما. متشبثاً بالحلم والأمل والإيمان بجدوى الفن وضرورته علاجاً ناجعاً لجراح ومخاوف صغار، انتزعت طفولتهم عنوة، ففقدوا إحساسهم بالأمان، ومتيقناً أن الفن يشكل حداً فاصلاً بين الحق والباطل، بين الجمال والقبح، بين النور والعتمة، في المنجز المسرحي الذي يحمل توقيعه مخرجاً وممثلاً: (طلعنا على الحرية) الذي يترجم بسهولة مفهوم عبقرية البساطة إلى مشهديةٍ عالية المستوى من حيث التقنيات، ولا سيما تقنية خيال الظل الذي أثرى الصورة وعمّقها، كما قدم ترجمة جمالية بارعة لموسيقى الفنان الفذ، مالك جندلي، التي تخاطب الروح الحزينة، وتحثها على الفرح، على الرغم من كل شيء، فشكلت متكأً لا يمكن تصور بديل عنه في مجريات المسرحية.
تألق الفنان السوري المبدع الأصيل، جلال الطويل، فنياً وجمالياً وإنسانياً، في عمله، مع هؤلاء الأبطال الصغار في عرض مسرحي استثنائي، لخص حكاية الوجع السوري، في لوحات متتابعة حارة حارقة ذكية غير مباشرة، بدون كلام أو صراخ فج، فلمس المشاهد أثر الفراشة الذي لا يرى في جملته العصبية برمتها، وتراوحت مشاعره في خمسين دقيقة، هي مدة العرض الذي مرّت خاطفة من فرط الجمال بين الحزن والغضب والفرح والأمل والحنين. شلع جلال، بحساسيته الفائقة، قلوب الحاضرين الذين قاطعوا اللوحات البليغة المعبرة بالتصفيق الشديد والهتاف، من أجل سورية حرة آتية وشيكة، رمز إليها بطفلة سورية جميلة ترتدي ثوباً أبيض، وترسم بصمت تفاصيل المرتقب المشتهى، في حين توالت اللوحات اللماحة الذكية التي بدأت بمشهد صغار درعا يخطون كلمة حرية على الجدران، وعبرت، بخفة ورشاقة، على سائر مفاصل الحدث الجلل، مروراً بالتغريبة السورية الكبرى، وبشّر، في نهاية العرض، بانزياح الظلمة، فاسحاً الفضاء للنصر والحرية. وختم العرض على وقع كلمات فيروز، مفسحاً الفضاء للنصر والحرية.
تحية كبيرة إلى صغار جلال الطويل المدهشين الذين جعلوا الأمل احتمالاً قابلاً للتصديق، وتحية مماثلة إلى المبدع جلال الذي لا تنقصه الموهبة أو البراعة، أو حتى الوسامة، وكان بإمكانه بكل سهولة، شأن زملاء له كثر، أن يكسب رزقاً يسيراً في تمثيل أدوار في مسلسلات تجارية تافهة من صنف التسعين حلقة، منسوخة عن مسلسلات مكسيكية رديئة، يرتدي فيها البدلات باهظة الثمن ويطلي شعرة بالجل، ويقع في الغرام بحسب مشيئة المنتج، ويتنقل في رغد بين دبي وبيروت والقاهرة، غير أنه اختار درباً أكثر وعورة، كان عسيراً على كثيرين؛ أقصد درب الحق والحرية والجمال.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.