السودان.. كسب الانتخابات من قاطعها

السودان.. كسب الانتخابات من قاطعها

23 ابريل 2015

أنصار البشير يروجون انتخابه (14أبريل/2015مGetty)

+ الخط -

ستظل الانتخابات التي جرت في السودان، الأسبوع الماضي، راسخة في ذاكرة السودانيين السياسية سنوات طويلة، فهي الانتخابات الأولى التي خسرها المشاركون فيها، وربحها العازفون عنها ومقاطعوها. كسبها، وبجدارة، الشعب السوداني، بغالبيته الصامتة، وقطاعاته الواسعة من أحزاب سياسية معارضة، وخسرها حزب المؤتمر الوطني الحاكم والرئيس، عمر البشير، المرشح الحقيقي والوحيد فيها. إنها انتخابات كشفت عن سوءات النظام السياسي السوداني، والذي بلغ نهاية المطاف. وفي الواقع، كشفت هذه الانتخابات عن أن حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وريث الحركة الإسلامية الشرعي في السودان، وفي سبيل القضاء على معارضيه، أحزاباً ونقابات وأفراداً، خلال عقدين، ضرب الحياة السودانية في مقتل.

التوصيف الحقيقي والجدير بانتخابات الرئاسة والبرلمان والولايات، الأسبوع الماضي، هو الفضيحة. قاطعتها الأحزاب السياسية، فبانت سوءات الخيارات التي وجد الحزب الحاكم نفسه أمامها. وجد الرئيس وحزبه أنهم يقدمون للشعب مجموعة مغمورة من المرشحين للرئاسة، لم يسمع بهم أحد حتى داخل أروقة الحزب الحاكم، الذي انتمى غالبيتهم إليه، وانتهى الأمر إلى كارثة حقيقية بالمعايير السياسية. أحزاب معارضة رفضت تجاهل الحكومة النداءات الخارجية "الأوروبية" والداخلية بضرورة تقديم الحوار الوطني على الانتخابات، فرفعت شعار المقاطعة، بل طالبت برحيل الرئيس نفسه بكلمة موحية "ارحل". وخارج المظلة الحزبية الواسعة، وليس بعيداً عنها، اختار الشعب أن يقول كلمته، وكانت بالفعل العليا والأقوى، أنه يرفض الحال التي بلغها الشد السياسي، ويرفض متاهة السياسات الحكومية، التي باتت تقود البلاد نحو الكارثة. وإذا كانت الانتخابات تمثل صوت الشعب الحقيقي، وفي أحيان كثيرة، صوته العقابي البليغ لمن فشل في مطابقة أفعاله بأقواله، فإنه، في الحالة السودانية هذه، قد أسمع صوته للرئيس، عمر البشير، وحكومته، أنهم يرفضون حكمه بوضوح لا يقبل الشك، إلا عند من تملكه الوهم وأعماه، وفضل أن يسدر في غيه.

من تابع الأخبار، التي تناقلتها محطات تلفزة في السودان، عبر مراسليها في مختلف أقاليم السودان ومدنه، وجد أنها جميعها اتفقت على أن أحدا منها لم يتجرأ في إدارة الكاميرا، لتقديم الصورة الحقيقية التي تكشف عن "إقبال" الناخبين، ومن مراكز الاقتراع. وفي مقابل ذلك، انتشرت صور وفيديوهات بثها الناشطون المعارضون للرئيس، عمر البشير، وحكمه على مواقع التواصل الاجتماعي، وتوضح ضعف الإقبال، وتكشف أبعاد الفضيحة. وبدت الصورة الفاضحة للواقع والساخرة منه تنقل معركة الصمت الشعبي المزلزل في مقابل ماكينة دعائية حكومية، تحاول إيهامنا بأن الواقع أمر آخر غير ما تراه أعيننا من خواء المراكز، وفي نوم القائمين داخل غرف الاقتراع. وأظهرت الصور، عدا حالة الفراغ وضعف الإقبال، مدارس وقاعات الدراسة، وقد بدت أبنيتها المترهلة فضيحة للمستوى الذي بلغه التعليم هذا عنوانه، في مدارس هذا حالها من ترهل وانهيار. وانتشرت صور مدارس خربة خاوية، سوى من موظفين مرهقين استسلموا للتعب، وربما إرهاق الضمير، وذهبوا في نوم عميق. هكذا قالت الصور. ولن أورد هنا الأرقام عن حجم المشاركة، لأنها بلا معنى أمام الخواء الكبير في المراكز، فالأبلغ منها الصور، وأجمع أهل وأصدقاء وصحافيون داخل السودان على أنهم لا يعرفون أحدا سجل اسمه للتصويت أصلاً، ناهيك عن التوجه إلى الاقتراع. وقال رئيس بعثة جامعة الدول العربية لمراقبة الانتخابات، بلغة مبينة، إن مستوى الإقبال بين ضعيف جدا وضعيف ومقبول، فيما قال الرئيس النيجيري السابق، رئيس بعثة الاتحاد الأفريقي، أوليسيجون أوبسانجو، إن الاقبال ضعيف، ولن يتجاوز نسبة 30 %.

ما تأكد هو أن الصوت العالي في هذه الانتخابات كان، بلا جدال، صوت الشعب السوداني الذي قالها وبوضوح، إنه يرفض السياسات الحالية للحكومة التي يترأسها عمر البشير، ويرفض السير في متاهة الحركة الإسلامية التي أوصلته، بعد تجريب تجاوز العقدين إلى حافة النقطة الحرجة. يريد الشعب الخروج من الأزمة السياسية، عبر بوابة الحوار الوطني السلمي، بمشاركة كل القوى السياسية الحقيقية. وفي هذا، تتفق القوى الشعبية مع القوى السياسية من أحزاب المعارضة. وتفيد الصورة المجملة لسودان ما بعد الانتخابات بأن الحكومة ارتكبت خطأ مزدوجاً، مرة في أنها قفزت إلى الخطوة الانتخابية متجاوزة مبادرة الرئيس البشير نفسه للحوار، بحسابات خاطئة، بالرهان على السند الشعبي المتوهم. والخطأ الثاني أن الانتخابات فضحت نيات الحكم ورهانه على المضي في أطروحات وبضاعة لم تعد تجد من يشتريها داخلياً، ولا من يرتضيها خارجياً. وأكد الشعب، بصوته القوي ومقاطعته الأكبر من نوعها منذ انقلاب البشير عام 1989، حقيقة أن لا مخرج من الأزمة السياسية سوى طريق الحوار الجاد لإنقاذ السودان الذي ينحدر، وبشدة، نحو الخطر.

0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.