من أصاب بغداد بالعين؟

من أصاب بغداد بالعين؟

15 ابريل 2015

قوات الاحتلال الأميركي في ساحة الفردوس في بغداد (9أبريل/2003/Getty)

+ الخط -

كأنما كتب على بغداد التي أسماها الكيشيون "عطية الإله" أن تعيش جدلية "النهوض والسقوط"، كلما دار الزمان. ولذلك، فقد ورث أهلها مجلدات من الشعر والنثر في البكاء على أطلالها، كلما كبت أو تعرضت للدمار، ومن هذا الركام، أبيات قيلت إثر حريق تعرضت له أواخر القرن الثاني للهجرة، وأطاح كثيراً من معالمها، لكن شاعرها ظل مجهولاً، وهي تبدو كأنها قيلت اليوم:

بكيت دما على بغداد لما/ فقدت نظارة العيش الأنيق. أصابتنا من الحساد عين/ فأفنت أهلها بالمنجنيق. وقوم أحرقوا بالنار عمداً/ ونائحة تنوح على غريق.

ليس هذا الشاعر وحده من يعزو جدلية نهوض بغداد وسقوطها إلى "عين حسود"، فقد وافقه على ذلك عمرو بن عبدالملك الوراق الذي شهد فتنة الأمين والمأمون، فخاطب بغداد باكيا:

من ذا أصابك يا بغداد بالعين/ ألم تكوني زماناً قرة العين. ألم يكن فيك قوم كنت مسكنهم/ وكان قربهمو زيناً من الزين. أستودع الله قوما ما ذكرتهم/ ألا تحدر ماء العين من عيني. كانوا ففرقهم دهر وصدعهم/ والدهر يصدع ما بين الفريقين.

وقد تكرر سقوط بغداد من بعد نهوض، وعرف البغداديون أن مدينتهم لا تكبو إلا لتنهض ثانية، والزمان يقسو ثم يصفو، ثم يعاود جدليته، كلما دار واستدار. استباحها هولاكو، وأشعل النار في مساكنها ومساجدها وأسواقها، وألقى في دجلة كل ما اختزنته من كتب، لدرجة أن ماء النهر أخذ لون السواد، لكنها قاومت الموت، وبدأت حياتها من جديد.

وسقطت بيد العثمانيين، فأمعنوا فيها خرابا، وأخذوا أهلها إلى الحروب، من أجل مجد الإمبراطورية، لكنها تمردت مرات، واستعادت ألقها وزهوها. واحتلها الإنجليز في الحرب الكونية الثانية، ودخلها الجنرالات "فاتحين"، الجنرال مود قائدا، والجنرال طومسون حاكماً عسكرياً، وقيل إن القنصلين الأميركي والإيراني، وحاخام الطائفة اليهودية، وبعض خونتها حضروا لمباركة المحتل، وعرض خدماتهم عليه، لكن البغداديين لم يأبهوا لذلك، ووصموا حكم الإنجليز بعهد "السقوط"، وتعاهدوا على الخلاص منه.

في عهد الملوك، عاودت بغداد نهضتها، لكن "العين الحسود" التي حملها الشاعر المجهول وصنوه الوراق مسؤولية "السقوط" عاودت اختراقها حاضر المدينة، وأوقعتها بيد "العسكرتاريا" التي سرقت منجز التغيير من أيدي القوى الفاعلة في المجتمع، وكتب روائي معروف من أبنائها، هو الراحل فؤاد التكرلي، ينعى سقوطها: "سقطت المدينة، وانهار عالم متحضر حي كان ماثلاً".

مرة أخرى، أفاقت بغداد، وسعت إلى بناء مجدها في دورة زمان جديد، لكن حكامها الجدد أخذوها عنوة إلى الحروب والحصارات، وأفقدوها قدرتها على التصدي والمجابهة، وعندما غزاها الأميركيون، في التاسع من أبريل/نيسان الأسود، استغربوا سرعة سقوطها أمامهم، حيث اقتحموا بواباتها في واقعةٍ، لا تشبه حتى واقعة دخول الإنجليز لها، قبل نحو ربع قرن.

وهذه المرة، عصف بها الدمار، كما لم يعصف بها من قبل، اذ اشتعلت فيها الحرائق، واستشهد كثيرون من أبنائها، وهم يقاومون، وهيمنت على حكمها مافيات الحقد والجريمة، وعصابات اللصوص والقتلة، لكن ذلك لم يفقد أهلها الأمل في قيامة المدينة، وظلوا يسألون عما دفع بمدينتهم الأثيرة إلى السقوط على هذا النحو المريع، وما الذي أودى بقدرتها واقتدارها، إلى درجة وصول الغزاة إلى قلبها في يوم وليلة، وببضع آليات عسكرية فقط، استقرت في ساحة الفردوس، وفي حينها، تبخر الجيش والحزب والفدائيون في لحظةٍ لم تكن فاصلة فحسب، إنما ومؤسسة لمرحلة هجينة وقاتلة.

وإذ لم يعثر البغداديون على أجوبة شافية، فقد أوكلوا أمرهم إلى الله، وعزوا سبب "السقوط" المريع، والسريع، والمفاجئ، إلى "عين حسود"، كما ذهب أسلافهم من قبل! لكن، ما أثار سخريتهم محاولة من كانوا في السلطة تسويق فكرة أن "السقوط" لم يكن منه بد، والهزيمة كانت محتمة، لأن الأمر كان مقرراً من أميركا والغرب منذ عقود، هو إقرار يكشف قصور الرؤية لديهم، وفشلهم في التحكم في الأزمة وإدارتها، على نحو يحفظ العراق وطناً وشعباً، وهم الذين وضعوا الحكم والحزب في بيئة معادية داخلياً، وإقليمياً، ودولياً، وأوكلوا صناعة الخطط العسكرية، وقيادة الجيوش، إلى من لا خبرة له ولا دراية، وصموا آذانهم عن نصائح القيادات العسكرية المحترفة والخبيرة، ما سهل على الغزاة النفاذ، دونما عائق!

والمفارقة الملفتة، والماثلة إلى اليوم، هي في إصرارهم على عدم مراجعة تجربتهم، وتجاهلهم الأخطاء والخطايا التي سهلت سقوط بغداد، وسقوط العراق، وصمتهم تجاه الأسئلة الكبرى المثارة، واكتفائهم بالتبريرات التي يثير بعضها الأسى، وبعضها يستدعي الغضب.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"