اليرموك ونهر البارد والاغتراب المُر

اليرموك ونهر البارد والاغتراب المُر

15 ابريل 2015
+ الخط -
المرارة وحدها تكفي للسؤال عن الحياة في المخيم وواقع المخيم والأوضاع العامة فيه، هذه هي حالتنا وتداعياتها المريرة، مرارة الاغتراب القاسي والقصي في بلادِ المنفى. من هُنا، يبدأ هاجس الخوف على سلامة الأحلام في سبيل حلمنا الدافئ والقابض على جمرة الغُربة التي تجاوزت غربتها "سبعة وستون عاماً" وأيّار يأتي حاملاً معه ما تبقّى لنا من ذكريات الأمس "النكبة" ولكن في هذه المرحلة، عن أية نكبة نتحدّث، وعن أيّ قهرٍ نتحدّثُ في خضم هذا السواد الذي يرتدي ثوب السماء الأزرق، كل السماء، من شرقها إلى غربها، حتى حدود المخيم، وعن أي مخيم نتحدّث في هذا العالم الذي أمسى مخيم خارجاً للتو من حربٍ ليدخل فيها ومن رياح إلى برق خُلبيّ أخير، كفلسطينيٍ يدوّن ذكرياته على مفكرةٍ صغيرةٍ، أصبحنا لا نجيد اللغة الجديدة، إلا لغة الأطلال والمكان الأول في فيلمٍ عن البطولة والفناء، في نهر البارد الأمس، وعن اليرموك اليوم لا نريدُ سوى الحياة بكرامة الإنسان، إلى حين الرجوعِ الأخير إلى حيّنا في عكّا والجليل، ولا نريدُ سوى خيمة هادئة، حتى يقترب موعد اللقاء الأول والبشارة الأولى تسمّى "العودة".

عندما دخلنا مخيم نهر البارد عام 2007، وجدنا ما وجدناه من مشهدٍ ملحمي لصورتنا، وعندما اقتربت من بيتنا كان ولد صغير يكتب بأصابع الفحم على جدار البيت الأسود "حين أنام/ في داخلي أمنية آن لها أن تنهض" نعم. في داخلنا أمنيات يافعة آن لها أن تنهض، وترى صورة القمر البعيد، آن لها أن تنهض، كطائر الفينيق، يا ولدي الصغير، وهناك لم يبق في مكتبتنا الصغيرة سوى احتراق الورق المنثور على طاولةٍ خشبيةٍ، أكلتها النار الشريرة. قال أبي إنه لم يجد من بين الكتب شيئاً سوى غلاف كتابٍ قديمٍ تحت الرماد، ويظهر عنوانه واضحاً "الفكر والحرب"، تتشابه أسباب الموت دائماً في قبر مخيّمي، ينبت الجرح فيه منذ نكباته السابقات، وهكذا نحن دائماً ظمأى للحنين وللأزقة التي غادرتنا أمام مرمى الرصاص الذي ابتلع كل شيء.

الاغتراب المر هو ذاك المخيم الحنون القابع في الضياع السرمديّ بين الحقيقة والزيف، وما بين حدود هُنا وموتٍ هناك وراء الشوك وأمام شقائق النعمان على طول المسافة، حتى "فلسطين". زرت اليرموك يوماً في عام 2006، وكان الهواء لطيفاً في ليل دمشق، ولون الحب يعشعش في زهرة الياسمين، وبياضها الناصع. زرتُ اليرموك، وكتبت شعراً عن رحلة الحلم المؤجل والمزنّر بالعشق للقدس وحيفا ويافا والنجوم البيض في بلادنا. كنت لاجئاً في حضن لاجئ تحت سرير لاجئ، ويستمر الألم حتى بلوغ سدرة الوطن، يا وطني اللاجئ تقدّم نحوي فأنا أضعتُك في دروب لا أعرفها، لجأتُ إليك غريباً فالجأ إليّ، لحظة الجرح تدل علينا، وعلى معنى الوطن والهوية، ومعنى التشرد بحثاً عن الوطن الغائب/ الحاضر في جغرافيا النفس، وفي فلسفة المنفى.
هنا ابتدأ الألم، وهنا غاب الوطن. في اليرموك، كان الموت ينطق، وكلُّ شيءٍ فينا يسأل: إلى متى سنبقى على حبال الموت والجوع والنسيان؟ إلى أين سنهاجر؟ مرةً أخرى، والبحرُ واسع والسماءُ ترمي غيومها على الطرقات، والأرض حمراء من شدّة الدمع والدم، يبقى الجرح جرحنا الواحد بين هجرةٍ أو دمعةٍ أخرى. هذا هو الوجع المخيميّ الماكث في رحم الأسئلة، نحلمُ بأن ننام هادئين، بلا قلقٍ أو بردٍ، ينتشل الروح وسط الخيام المبعثرة والوجوم، حيث نطل من شرفات مظلمة، نحو بلاد مظلمة صوب ريحٍ صرصر، والنازحون يسافرون كالريح، من غبار الذكريات إلى بلاد مرت بها العاصفة. ما زلنا نحبُّك، أيّتُها الحياة، حتى الرمق الأغلى فينا، وليس في وسعنا إلا أن نغنّي لك لكي نسند ماضينا على وسادة الحب، ولو ضاق المكان وانقرض الزمان، سيظلُّ السبيل سبيلنا إلى الوطن العزيز الواقف هناك، كالشمس الساطعة "ونحن آن لأمنياتنا أن تنهض".

avata
avata
باسل عبد العال (فلسطين)
باسل عبد العال (فلسطين)