الأبنودي فلسطيني الروح

25 ابريل 2015
+ الخط -

نودّعُ شاعراً جديداً ينضمُّ إلى كوكبة الشعراء الراحلين الذين صوّبوا شعرهم دوماً في سبيل الحب والحياة والحقيقة. هو شاعر مصر، بل شاعر فلسطين وشاعر الأمة العربية، عبد الرحمن الأبنودي. يرحل عنّا ليسكن فينا، في الغياب حضورٌ آخر، في النقصان كمالٌ آخر، لم ينقص الشعر كثيراً إنهُ اكتمل بحضور الغياب، يحضرُ الشاعر في وجدان قارئهِ، يصير الشعر رؤية وواقعاً ملموساً لشاعرهِ ومبدعهِ، يصيرُ الشعر البديل النّاطق باسم صاحبهِ، والمسؤول الأوّل عن معنى الغائب.
يرحل الأبنودي من هُناك، لكنّهُ مازال هُنا، يكتبُ، ويقرأُ، ويستمعُ لنشيد الفقراء. ها هو يتأمّلُ ذاتهُ فيهم، ومن شرفة بيتهِ في الإسماعيلية، يتنفسُ هواء مصر اللطيف كأهلهِ، عاش هُنا ومات هُنا، وما يزالُ الشعر يناديهِ. بدونك يا "خال" شحّ الماءُ في حدائق الكلام.
افتقدناكَ يا عاشق فلسطين وحبيبها، أيُّها الفقير/ الغنيّ/ السلس/ الشرس. لم نلتق مرّةً في كتابٍ. ولكن، يكفيني أنّي، حين قرأتكَ، رأيتُ وطني، كم نحن فيك، كم أنت فينا؟ يا شاعر الزمن الصعب، لكنّكَ لم تستسلم لهُ، بقيت تُهدي في كلّ قصيدة وردة وسط ازدحام الموت، وسط انكسار الصوت، فقد أديتَ واجب الشعر على أكمل وجه، من الأغنية حتى الأغنية. آمنتَ بسلاسة القول وقداسة المعنى، فانتصرت، وتألقت في سمائنا الأرحب. أحببت القدس أكثر، كم غنّيتَ لها، ودعوتها أن تنام في أحضانك مرة، وغفوت معها على وسادة الكلمات والحياة. نطقتَ باسم الفقراء، كلّ الفقراء الذين لا تنبض القصيدة بدونهم، لأنهم جسد القصيدة وروح القصيدة ودم القصيدة النابض. هكذا سلك الشعر سبيلهُ معك، وأدى واجبه الذي يجب أن يكون.
هكذا كُلّما ودّعنا شاعراً، تحتارُ لغة الوداع فيهِ، ماذا نقولُ لك، يا صاحب القول كلّهُ. انقرض الكلام، ونحن ذهبنا إلى الصمتِ لفسحةِ الشرود العاطفيّ على خسارتِنا. كم خسرنا أجمل ما كان فينا؟ هو الحاضر حاضرنا يا عبد الرحمن، وهو الموت قدرُنا، والمصير مصيرُنا، حيث لا يبقى منّا سوى الجوهر، جوهر الإنسانيةِ الباقي. وداعاً نقولُ ونضيءُ شمعة في هذا الليل الرديء، وداعاً نقولُ، ولا نقولُ على شاعرٍ يولد، الآن، من أرض القصيدةِ للقصيدة. فلا تذهبْ بعيداً بعيدا.
دع اللغة هي التي تكمل فينا ما غابَ منكَ، هل يموتُ الشعراء تماماً؟ وهل يرجعون إلى الزمان يوماً؟ هو اختبارُ الشعر، وهو سؤال الشعر وحاجتنا منهُ. اليوم سقطت زهرة من زهورهِ في طقسٍ غائمٍ وسط الوجوم السماويّ يا "خال". سقطت زهرة وتفتحتْ أخرى، على جمال الطبيعةِ والرمز والفكرة. رحل الضوء، وبقي الحلم يؤدّي دورهُ وسيرتهُ في ما نشتهيهِ من غدِنا. من هُنا، صاح النشيد، وابتدأت الأغنية من رحم القوم إلى قلب شاعرها. سنغلق هذا الرثاء، ونعودُ إلى كلماتكَ، لكي نحيا فيك من جديد.
سنغلق كلّ أبواب الحزن والدمعِ ونمنح الروح روحاً جديدةً وشعراً جديداً ستظلُّ أنت فارسهُ وحصانهُ الصاهل باسم الحب، سنغلق كلّ أبواب الليل، ونفتح نافذةً واحدةً تطلُّ عليكَ. سنرمي لك وردةً حمراء من شرفات الأرض التي أحببتها، سلاماً عليك، يا صاحب "حبيبتي فلسطين". كم تحبّك فلسطين، من شرقها إلى غربها، حتى حدود المخيم، مثلنا، ودعت سميح القاسم، بالأمس. ها هي اليوم تودّعكَ فلسطينكَ على إيقاع الشهداء، وداعاً يا شاعرنا وداعاً.

باسل عبد العال (فلسطين)

 

avata
avata
باسل عبد العال (فلسطين)
باسل عبد العال (فلسطين)