مسلمو فرنسا بعد الاعتداء الإرهابي

مسلمو فرنسا بعد الاعتداء الإرهابي

10 يناير 2015

زهور وأقلام أمام مكاتب "شارلي إيبدو" (7 يناير/2014/Getty)

+ الخط -
قد يكون الاعتداء الهمجي على مقر أسبوعية "شارلي إيبدو" التهكمية في العاصمة الفرنسية، والذي أودى بحياة 12 شخصاً، القشة التي تقصم ظهر البعير، وتكون شرارة، في جو سياسي مشحون بالعداء للإسلام والمسلمين في أوروبا (تظاهرات معادية للمسلين في ألمانيا، ولكن تظاهرات مضادة في البلد نفسه تدافع عنهم)، لاستهداف المسلمين، جماعياً أو فرادى. ووعياً منها بهذه المزالق الخطيرة وتداعياتها الأمنية والاجتماعية، تعمل السلطات السياسية، وجزء معتبر من الإعلام والنخبة المثقفة وشرائح واسعة من المجتمع في فرنسا، على التركيز على ضرورة التمييز بين أفراد ومجموعات تقترف جرائم باسم الإسلام والمسلمين في فرنسا، جزء منهم فرنسي أيضاً (المولد و/ أو الجنسية). وإلى حد الآن، يمكن القول إن ضبط النفس هو السائد، ما عدا في الأوساط المعادية تقليدياً للإسلام والمسلمين في هذا البلد.
لا جدال في أن العملية الإرهابية ضد "شارلي إيبدو" تضع المسلمين في فرنسا، وبشكل غير معهود بين مطرقة القوى اليمينية المتطرفة وغير المتطرفة المعادية لهم وسندان الجماعات الإسلامية المتطرفة والإرهابية. فالفئة الأولى ترى أنهم ليسوا فرنسيين بما فيه الكفاية، ولن يكونوا كذلك، وأنهم جسم غريب دخيل على النسيج الاجتماعي الفرنسي، برافده الديني والحضاري اليهودي ـ المسيحي، وأنهم جماعة متطرفة تريد فرض معتقداتها الدينية، وتغيير وجهة المجتمع الفرنسي، وصقل هويته على هواها. وهم يستدلون بالجزء الظاهر للعبادات الإسلامية في فرنسا التي أصبحت تلقي بثقلها على منظر بعض الأحياء الفرنسية، فضلاً عن مطالبة بعض المسلمين بوجبات حلال في مؤسسات تربوية عمومية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك فئات قليلة جداً من المسلمين في فرنسا تستفز السلطات العمومية قصداً، لإثارة هذه المشكلات التي ينقضّ عليها اليمين المتطرف بسرعة فائقة، ليجعلها حجة إضافية له. فبدل أن يفتحوا مؤسسات تربوية خاصة، كما تفعل طوائف دينية أخرى في فرنسا، يقولون بتعديل قواعد المؤسسات العمومية على مقاسهم...
أما الجماعات المتطرفة والإرهابية الإسلامية فترى أنهم ليسوا مسلمين بما فيه الكفاية، وأنهم تعرضوا لعوامل التعرية الحضارية والدينية والهوياتية، بسبب اندماجهم في المجتمع الفرنسي. وبالتالي، على هؤلاء "الدعاة الجدد" و"جند الله" إعادة المسلمين إلى الطريق المستقيم بالتي
هي أحسن (إعادة الأسلمة من أسفل) أو بالتي هي أخشن، باستهدافهم مباشرة (تهديد مسلمين فرنسيين معارضين لهم بالقتل)، وخصوصاً بدق إسفين بينهم وبين المجتمع الفرنسي الذي هم (عموم مسلمي فرنسا)، جزء منه، أو يعيشون فيه. وهنا، يكمن الهدف الأسمى للجماعات الإسلامية المتطرفة المعادية للغرب عموماً. فبضرب بعض الأيقونات المعبّرة عن الحرية (حرية التعبير)، أو نمط العيش الغربي باسم الإسلام، فهي تمنح حجة قوية دامغة للمعادين للمسلمين الذين يقولون باستحالة التوافق بين الإسلام/ سلوكات المسلمين والديمقراطية، وبحتمية المواجهة معهم.
وبهذا تُدخِل الجماعات الإسلامية المتطرفة من جهة، والجماعات اليمينية المتطرفة من جهة ثانية، المجتمع الفرنسي في حلقة مفرغة لحرب حضارية، لا معالم لها، لسان حالها الكراهية متبادلة! والمشكلة أن هذا الإسلام الهمجي المرئي والمسموع الذي يسوّق له محترفو الإرهاب والتقتيل يقدم لليمين المتطرف الفرنسي حجج عنف، على مرأى ومسمع من العالم وعلى طبق من ذهب، وما على الأخير إلا الركوب على الموجة ومسايرة الأحداث. فالقوى المعادية للإسلام والمسلمين لم تعد تحتاج برامج وحملات دعائية وإقناعية، فهناك مسلمون، بل أفراد يدعون الانتماء إلى الإسلام، يقومون بهذا العمل بدلاً عنها. وإذا كانت الكراهية متبادلة، فإن التغذية متبادلة أيضاً. لأن سياسة دق الإسفين تهدف، أيضاً، إلى الدفع نحو استهداف المسلمين في فرنسا، حتى تعتبر الجماعات الإسلامية المتطرفة والإرهابية ذلك حجة لها. وعليه، فكلاهما يغذي ويتغذى من خطاب الآخر وسلوكه، وعلى الرغم من عدائهما المتبادل فلهما مصلحة متبادلة (تغذية الاحتقان والإسلاموفوبيا).
ويوجد المسلمون في فرنسا في وضع لا يحسدون عليه. فكل فئة، المتطرفة الفرنسية والمتطرفة المسلمة، تطالبهم عموماً بإثبات ولائهم. فالأولى تريد منهم أن يثبتوا ولاءهم باستمرار لفرنسا كمواطنين، وأن يرفعوا شهادة حسن سلوكهم وبراءتهم ممّا يصدر من مسلمين في حق فرنسيين. والثانية تريدهم أن يثبتوا إسلامهم. وهكذا، فهم مطالبون، دون سواهم، بأن يثبتوا كلما وقع مكروه أنهم أبرياء، براءة الذئب من دم يوسف. ولا نقول شططاً إن اعتبرنا المطالبة المتكررة، حتى من شرائح واسعة في المجتمع الفرنسي، بتحرك المسلمين وتلاوة الاعتذار عمّا يصدر من أفراد مسلمين يتخذون من الإرهاب نهجاً، مشكلة حقيقية، انتبه إليها فرنسيون من غير المسلمين. بالطبع، لا يمكن أن نفرض باستمرار على أغلبية ساحقة من الناس التنديد والاعتذار عن أعمال ثلة همجية تدّعي الدفاع عن دينهم، لكنها أول من يسيء إليه، وإلى مَن يؤمنون به. ثم إن هذا المطلب، في سياقه العام، في غاية من الخطورة، فمن جهةٍ، يُطلب من المسلمين أن يكونوا فرنسيين كبقية الفرنسيين. ومن جهة ثانيةٍ، يُطلب منهم أن يتظاهروا وينددوا بما حدث كمسلمين! يجب أن تكون القيم التي تقوم عليها الجمهورية الفرنسية هي الحكم، والعمل بها يعني أن على المسلمين أن يتظاهروا كفرنسيين، لا أكثر ولا أقل، أما انتماؤهم الديني فأمر لا يخص أحداً، بموجب نظام العلمانية السائد في البلد، والذي يقوم على الفصل بين المقدس والمدنس في الفضاء العام.
في مقالتي ما قبل الأخيرة، في "العربي الجديد"، تطرقت إلى ظاهرة الإرهاب الفردي المعزول في فرنسا ومخاطرها على المجتمع الفرنسي، الذي يعد المسلمون جزءاً منه. والمشكلة، في سياق هذه الظاهرة، أن الأفراد الضالعين في عمليات إرهابية لم يأتوا من خارج فرنسا، وإنما خرجوا من رحم المجتمع الفرنسي، ولدوا في فرنسا وترعرعوا فيها ودرسوا في مدارسها وتغذوا بثقافتها. ومن ثم، لا استراتيجية استباقية و/أو وقائية تنفع مع مواطنين عاديين، إلا إذا سلّمنا، كما يحلم بذلك اليمين المتطرف، بأن وراء كل مسلم إرهابي كامن. وعليه، تخلق الصعوبة الأمنية في التعامل مع هذه الظاهرة جواً من الريبة المعمّمة، تقتضي الحذر وضبط النفس، أكثر من أي وقت مضى.