في الفروق بين الثورة والتمرد

في الفروق بين الثورة والتمرد

16 سبتمبر 2014

تصميم لـِ(أليكس بلومنيسكي)

+ الخط -

إحدى نتائج فشل "الربيع العربي" محاولة بعض القوى السياسية والاجتماعية تحويل المسار الثوري إلى مسار تمردي، يسعى إلى استنزاف الدولة السلطوية في العالم العربي وإرهاقها، بهدف إسقاطها والحلول محلها، مستلهماً في ذلك تجارب التمرد التي حدثت في دول أميركا الوسطى، وذلك من دون وعي، أو إدراك، للفوارق الكبيرة بين الحالتين. ففي بلدانٍ، مثل نيكاراغوا والسلفادور وغواتيمالا، نجحت الجبهات والقوى الثورية، من خلال التمرد واستخدام السلاح، إما فى الانقضاض على السلطة، كما هي الحال في نيكاراغوا أواخر السبعينيات، أو المشاركة فيها من خلال اتفاق مع القوى القديمة، كما الحال في السلفادور وغواتيمالا أوائل التسعينيات.

وحقيقة الأمر، أن ثمة فروق كبيرة، لا يمكن تجاهلها بين الثورة revolution والتمرد insurrection، وبين ما حدث فى دول أميركا الوسطى وما يحدث الآن فى العالم العربي، وذلك ليس فقط فيما يتعلق بالبنية والسياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإنما، أيضاً، في طبيعة القوى والحركات الثورية وتركيبتها وأهدافها في الحالين.

فمن جهة أولى، فإنه على الرغم من التشابه والتقارب السلطوي بين أنظمة أميركا الوسطى والأنظمة السلطوية العربية، إلا أن الأخيرة هي أشبه بأنظمة سلطوية هجينة auhtoritarinism hybrid وبعضها يمكن تصنيفه ضمن دائرة الأنظمة السلطوية التنافسية competitive authoritarinsim. فالأنظمة الشمولية التي سادت في أميركا الوسطى عقوداً طويلة، لم تسمح بأي قدر من الانفتاح السياسي أو المعارضة، في حين أن الأنظمة السلطوية العربية تسمح بقدر، ولو ضيئل، من الانفتاح السياسي، كما توجد فيها نوع من المعارضة، ولو شكلية، ما يقلل من فرص قيام جبهة ثورية موحدة.

ومن جهة ثانية، لم تنجح كل الحركات والجبهات التمردية فى دول أميركا الوسطى في الوصول إلى السلطة، بالقوة أو السلاح، وإنما بصفقات واتفاقات مع الأنظمة القائمة، باستثناء حالة نيكاراغوا التي رزحت تحت حكم الجنرال أناستاسيو سوموزا وعائلته لأكثر من أربعين عاماً، كان نظام الحكم فيها ديكتاتورياً مغلقاً، لم يسمح بأي نوع من المعارضة، ومارس أسوأ أنواع القتل والإبادة ضد معارضيه، إلى أن نجحت الجبهة الساندينية للتحرير الوطني فى التخلص من حكم سوموزا عام ١٩٧٩، بعد حرب تمردية استنزافية، راح ضحيتها نحو خمسين ألف قتيل. وقد نجحت الجبهة الساندينية، ليس فقط بسبب قوتها العسكرية، وإنما بالأساس بسبب السياسات الإقصائية لنظام سوموزا تجاه كل الطبقات والقوى السياسية والاقتصادية التي دفعت كثيرين بالانضمام للجبهة، ناهيك عن عدم قوة المؤسسة العسكرية لنظام سوموزا. أما فى السلفادور وغواتيمالا، فقد فشلت الحركات التمردية في إطاحة أنظمتهما السلطوية، وإنما تم التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب الأهلية التي راح ضحيتها نحو 75 ألف شخص في السلفادور في الثمانينيات، وانتهت عام 1991، وحوالى 200 ألف شخص في غواتيمالا التي توصلت إلى اتفاق سلام عام 1996.

ومن جهة ثالثة، استفادت معظم الحركات التمردية في أميركا الوسطى من السياسات الاقتصادية الجائرة التي اتبعتها الأنظمة السلطوية، والتي أدت إلى فجوة اجتماعية كبيرة، سواء فيما يتعلق بامتلاك الأراضي التي اقتصرت على فئة قليلة من الرأسماليين، أو من خلال احتكار المنتجات الزراعية من الشركات الكبرى المحلية والدولية، خصوصاً الأميركية. ما عمّق الشعور بالظلم الاجتماعي، ودفع بكثيرين إلى دعم هذه الحركات. أما في العالم العربي، فعلى الرغم من الفجوة الاجتماعية، إلا أن ثمة إدراك لدى الأنظمة السلطوية بمخاطر التهميش الاقتصادي والاجتماعي، ما قد يفسر استمرار فكرة الدولة الرعوية.

ومن جهة رابعة، تمتعت الحركات والقوى التمردية في دول أميركا الوسطي بنزعة ثورية، وببرنامج راديكالي للتغيير، على عكس حركات ثورية كثيرة في العالم العربي التي إما أنها حركات محافظة إصلاحية بحكم النشأة والمنهج، أو أنها حركات تفتقر إلى القدرة على بناء تحالفات ثورية خارج أطرها الإيديولوجية.

ومن جهة خامسة، وهي الأهم، وجدت الحركات والجبهات التمردية فى أميركا الوسطى حاضنة اجتماعية واسعة، شجعتها ودعمتها بالمال والسلاح والمتطوعين. وكان ثمة تأييد وإجماع شعبي عام، لاستخدام السلاح والعنف ضد الأنظمة القائمة، ما لا يتوافر قطعاً في الحالة العربية التي لا يبدو أن ثمة إجماع حول استخدام العنف من أجل الإطاحة بالأنظمة القائمة. ناهيك عن الثمن الكبير الذي يمكن دفعه فى هذه الحال. كما أنه ليس بالضرورة أن تؤدي عسكرة الثورة إلى النجاح فى إطاحة الأنظمة القائمة، بل على العكس، قد تكون سبباً لبقائها كما هي الحال في سورية.

ومن جهة أخيرة، من شأن الخلافات والفروقات الإيديولوجية والسياسية بين الحركات الثورية العربية إحباط أية محاولة لتشكيل جبهة معارضة موحدة للأنظمة القائمة. وهو ما يبدو واضحاً في الحالتين السورية والليبية. ففى الأولى، نجح نظام بشار الأسد فى البقاء، بسبب تفتت المعارضة وتشرذمها بأطيافها كافة. وفى الثانية، دفع فشل القوى السياسية فى حل خلافاتها الإيديولوجية والسياسية، بعد سقوط القذافي، بها إلى الدخول في حرب أهلية، على غرار ما حدث طوال الشهور الماضية.

ويضاف إلى ما سبق، الدور المهم الذي يلعبه السياقان، الدولي والإقليمي، في تحديد مخرجات الثورة والتمرد ومآلاتهما. فمن مصلحة القوى المضادة للربيع العربي أن تنجرف القوى الثورية إلى سيناريو التمرد والعنف، من أجل فرض مزيد من العزلة المجتمعية والدولية عليها وإفشالها، وهو ما قد يفسر الضغط المتواصل على هذه القوى، من أجل دفعها إلى تبني سلاح العنف والتمرد، ما يعني نهايتها سياسياً وشعبياً، ووأد فكرة الثورة لدى المجتمعات العربية. لا يمكن، إذن، مقايضة الثورة بالتمرد، فلكل منهجه وطريقته وأنصاره وسياقاته، وهو أمر لا يبدو أن القوى الثورية العربية على وعي وإدراك به، وهو ما يشي بعواقب وخيمة.

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".