"داعش" تنشط في بيئة طائفية خصبة

"داعش" تنشط في بيئة طائفية خصبة

14 يونيو 2014

عراقيون ينزحون من الموصل إلى أربيل أثناء المواجهات (Getty)

+ الخط -

راجت، في الأسابيع القليلة الماضية، تسريبات عن تنظيم دولة العراق والشام الإسلامية "داعش"، أنه في صدد توسيع نشاطه، ورقعة وجوده في لبنان والأردن. والتفسير، الذي شاع، حينها، أن التنظيم لقي ضربة موجعة له في محافظة الأنبار في العراق، مما ضيق عليه الخناق، وضاقت رقعة وجوده في سورية، وتكاد تقتصر على الرقة ودير الزور، بعد استنزافه في معارك بينه وبين الجيش الحر وجبهة النصرة. خلافاً لهذه التسريبات، لم يشهد البلدان الحدوديان مع سورية، الأردن ولبنان، تطورات تذكر على صعيد تسلل عناصر هذا التنظيم، أو تحرك خلايا نائمة مفترضة، في الأسابيع الثلاثة الماضية، ويبدو أن تكتيك صرف الأنظار عن الخطط الفعلية حقق نجاحاً.
التحرك الأخير لـ "داعش" في الموصل، ثاني أكبر مدن العراق شكل مفاجأة ثقيلة، ليس لمن يراقبون الوضع من خارج الحدود فقط، بل للعراقيين أنفسهم أيضاً، بمن فيهم حكومة نوري المالكي المستمرة في أداء أعمالها بعد إجراء الانتخابات. وقد تحدثت ردود الفعل الأولى، نهار الأربعاء الماضي، 11 يونيو/حزيران الجاري، عن انهيار شامل لقبضة النظام وقواه الأمنية في المدينة، وحالات فرار قيادات عسكرية، ودعوات علنية لمحاكمة هؤلاء. وتحدث محافظ نينوى، إثيل النجيفي، عن "قيادات عسكرية تعمل خارج نطاق الدولة". لم يعط ممثل الدولة في هذه المحافظة، التي تضم احتياطات النفط العراقي، مزيداً من الإيضاحات بشأن "العمل خارج نطاق الدولة". لكن، يُشتمّ من حديث المسؤول الرفيع أن ثمة فساداً أمنياً ومؤسساتياً ينخر جسم الدولة العراقية، تنشأ معه مؤسسات ومرافق أمنية موازية لقوى الجيش والشرطة العراقية، أو أنها تضع قَدماً هنا وقَدماً هناك. وفي هذه الحال، تتقدم الولاءات الفئوية والذاتية على الولاء للوطن والدولة، ويسهل، في الأثناء، التنصل من أداء الواجبات الوطنية العامة، وافتقاد الدافعية للتضحية.

" من أجل محاربة (داعش)، والانتصار على مشروعها الظلامي، وكل بُقَع الظلام الأخرى، يجدر بالحكم في العراق طرح الرؤى الطائفية جانباً، وهذا يتطلب الانتقال من المناشدات في هذا الصدد، إلى اقتراح مشاريع قوانين تحظر نشوء تياراتٍ وتنظيماتٍ طائفية، كمنصة انطلاق لمشروع وطني جامع يرسي أسس بناء دولة حديثة"


تحدث المسؤول نفسه عن تنظيمات مسلحة أخرى، تقف إلى جانب "داعش". ولوحظ أن الأنباء الأولى عن تطورات الموصل، ظهيرة الأربعاء، نُسبت إلى "مجاهدين بقيادة عزت الدوري"، نائب صدام حسين، في عودة إلى صاحب هذا الاسم، الذي لم تنجح السلطات في تعقبه طوال عشرة أعوام، وارتبط اسمه في السنوات الأولى بـ "المقاومة العراقية "ضد القوات الأميركية. وتشير عودة ظهور اسم الدوري إلى فشل أمني وسياسي مريع، وغياب مشروع وطني يجمع الديمقراطيين، يمتلك خطاباً عابراً للطوائف والمناطق والعشائر، ويترك أثره على مسيرة الحكم وأدائه، وينزع عن العنف أية وظيفة أو مشروعية سياسية مزعومة.
ليس معروفاً مدى العلاقة القائمة بين ما تبقى من حزب البعث العراقي، الذي يقوده الدوري، و"داعش". لكن، معروفٌ أن ثمة بيئة في العراق جعلت من التواصل بين زعامات حزبية ومحلية من جهة، وتنظيمات طائفية من جهة ثانية، أمراً واقعاً في العشرية الماضية، وقد لوحظ في الانتخابات البرلمانية وجود عشرة تنظيمات طائفية، هي بمثابة رديف وداعم لتيار المالكي "ائتلاف دولة القانون"، كما استرعى الانتباه أن المالكي دعا إلى تشكيل حكومة أغلبية "سياسية" وبرلمانية، على غرار ما يحدث في دولٍ ديمقراطية، حين تتشكل الحكومات، وفقاً لنتائج الانتخابات، وبديلاً لما سُمي بالمحاصصة. ومآل هذه الدعوة، في ظروف العراق، هو تشكيل حكومة أغلبية ذات لون طائفي واحد، مع ترك هامش ضئيل للمكونات الأخرى، ومن موقع التابع. وليس بعيداً عن العراق، في سورية، فإن التحالف بين "البعث" السوري وتنظيمات طائفية أمر قائم في المواجهات المسلحة الجارية، ومؤدى ذلك أن "البعث" في البلدين يقيم صلاتٍ وثيقة مع مجموعات طائفية، فيما لا يُخفي من ينهض بمسؤولية اجتثاث الحزب المذكور، في العراق، صلاته الوثيقة، أيضاً، بالبعث في الدولة الجارة! وفي أجواء هذا العبث التدميري، لا يعود مفاجئاً أن تنتعش حركة أصولية ظلامية مثل "داعش"، بل وتجد حلفاء لها، فيما لا يُقدّم مناوئوها بديلاً أفضل.
هذا مع الأخذ في الاعتبار اشتداد التنافس، منذ شهور، بين تنظيمات تشكل روافد لـ "القاعدة" وأذرعاً لها، منها خصوصاً النزاع المفتوح بين "داعش" وجبهة النصرة، والذي يجتذب إليه عناصر منظمات إسلامية، ليست ذات هوية مرجعية واضحة.  وهكذا، تثأر "داعش"، في تحركها الصاعق الأخير، لـ"نفسها" أمام اهتزاز صورتها، وحيال الضربات، التي تلقتها في الفلوجة والأنبار، من دون أن تعبأ هذه الحركة، بطبيعة الحال، بحق العراقيين، الذي لا يُنازع، في تقرير مصيرهم بأنفسهم، من دون أي تدخل خارجي لمجموعاتٍ أو دول، علاوة على واقع التعددية الاجتماعية والثقافية، الذي صمد قروناً، وأصبح يسم هوية العراقيين وبلاد الرافدين بميسمه، والذي لا يحق لأحد، خصوصاً من خارج العراق العبث به، أو القفز عنه. بينما يقع على العراقيين عبء الدفاع الجليل عن هذا الإرث الحضاري، ضد أي استهداف له من الخارج أو الداخل.
لقد ظل الحديث يتواتر عن مكافحة الإرهاب في ولايتي نوري المالكي، لكن واقع الحال يفيد بأن الإرهاب يتفشى، ويختلط بنزاع أهلي، ويتغذّى بانشطار اجتماعي ومناطقي (النزاع والانشطار حلّا محل التنوع والتعددية)، ناهيك عن افتقاد تراكم الخبرات في مكافحة الإرهاب، إلا بصورة موضعية ومتقطعة، هنا وهناك. والأسوأ غياب منظور سياسي وطني لمحاربة الإرهاب، ينطلق من بناء قوى ومؤسسات أمنية، تقوم على أسس مهنية ووطنية، كما من التعريف البسيط للإرهاب، باعتباره عنفاً يتوسل استهداف المدنيين والمرافق والممتلكات المدنية لغايات بسط السطوة السياسية، ويمنع، تبعاً لذلك، الدولة من القيام بواجباتها في حماية المدنيين، بتشديد الحملات على المراكز الأمنية وأفراد الأمن، أياً من كان يمارس هذا الإرهاب، أو يحرّض عليه، وأيّا كانوا ضحاياه.
من أجل محاربة "داعش"، والانتصار على مشروعها الظلامي، وكل بُقَع الظلام الأخرى، يجدر بالحكم في العراق طرح الرؤى الطائفية جانباً، وهذا يتطلب الانتقال من المناشدات في هذا الصدد، إلى اقتراح مشاريع قوانين تحظر نشوء تياراتٍ وتنظيماتٍ طائفية، كمنصة انطلاق لمشروع وطني جامع يرسي أسس بناء دولة حديثة. لكن الطائفيين، أَياً كانوا، ليسوا مؤهلين للوقوف ضد هذا الوباء، وأفضل من يتصدّى له هم الوطنيون الديمقراطيون، والمستنيرون والمعتدلون، والشرائح الاجتماعية العريضة المتضررة. العراق ينادي هؤلاء.