عن رجال الدين المسلمين والجهادويين

عن رجال الدين المسلمين والجهادويين

04 مايو 2014
+ الخط -
كنتُ في زمن مضى، وغيري كثيرون، ننتفض احتجاجاً، عندما يردد أحدهم تعبير "رجال الدين المسلمين"، على اعتبار أن الإسلام ليس فيه رجال دين ورجال دنيا، ولا وجود لطبقة الإكليروس المختصين بالتوسط بين العباد وربهم، والقيام بالطقوس الدينية اللازمة لأهل الدنيا. أقول "كنت" لأكتشف، فيما بعد، أن مجتمعنا أفرز طبقة أسوأ بكثير من كهنوت العصور الوسيطة في أوروبا، طبقة تأكل بدينها، وتضعه في خدمة دنياها، وتعين رجال الدنيا على البطش والظلم، وتغلف أفعالهم بقالب "شرعي"، مسوغ دنيوياً وأخرويا. هؤلاء ليسوا رجال دين بالمفهوم السائد فحسب، بل هم جلادون وقتلة ومتآمرون على الدين والدنيا، والعمائم التي تلف على رؤوسهم يجب ان تلتف على رقابهم!
يخصص عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد" باباً عن العلاقة الجدلية بين الدين والاستبداد، ويكتب "تضافرت آراء أكثر العلماء، النّاظرين في التّاريخ الطّبيعي للأديان، على أنَّ الاستبداد السّياسي مُتَوَلِّد من الاستبداد الدِّيني". ويدرس الكواكبي هذه العلاقة بين الاستبدادين، الديني والسياسي، على صورة تكامل، إذ يقول: "ما من مستبدٍّ سياسيّ، إلى الآن، إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة، يشارك بها الله، أو تعطيه مقامَ ذي علاقة مع الله. ولا أقلَّ من أنْ يتَّخذ بطانة من خَدَمَةِ الدِّين، يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله، وأقلُّ ما يعينون به الاستبداد".

وثمة في المشهد الختامي من حياة الشهيد سيد قطب ما يبرز الفرق بين رجل الدين وعالم الدين، فيوم تنفيذ الإعدام، وبعد أن وُضع على كرسي المشنقة، عرضوا عليه أن يعتذر عن دعوته لتطبيق الشريعة، ويتم إصدار عفو عنه، فقال: "لن أعتذر عن العمل مع الله". ثم قال: "إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفاً واحداً يقر به حكم طاغية". فقالوا له إن لم تعتذر، فاطلب الرحمة من الرئيس. فقال: "لماذا أسترحم؟ إن كنت محكوماً بحق، فأنا أرتضي حكم الحق، وإن كنت محكوماً بباطل، فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل". ويروي، أيضاً، أن "الشيخ"، أو بالأحرى "رجل الدين" الذي قام بعملية تلقينه الشهادتين، قبل الإعدام، قال له: "تشهد"، فقال له سيد: "حتى أنت، جئت تكمل المسرحية، نحن يا أخي نعدم بسبب لا إله إلا الله، وأنت تأكل الخبز بلا إله إلا الله".
هنا الفرق تحديداً، بين من يزين للحاكم سوء عمله، ويؤصله له شرعياً، وبين من ينتفض رفضا للظلم والعسف والقهر، ولا يشارك في عملية ذبح شعبه، باسم طاعة ولي أمر ليس له من ولاية الأمر إلا أنه كان أسرع من غيره في الجلوس على الكرسي!
هذا جانب، وثمة جانب آخر للمسألة، قد يكون أشد إعتاما، فالنيات الطيبة لا تشفع للمرء حماقاته، ولا "زلاته" الكبرى، وما زلت، بين حين وآخر، أتذكر مقولة للأستاذ فهمي هويدي، يضع فيها يده على جرح غائر في جسد الأمة، وتختصر جملة من المطولات، يقول: "حين أطالع أمثال تلك الفتاوى المفخخة التي يطلقها أولئك النفر من الدعاة الجدد، وألحظ ما فيها من جرأة وتغليط، تنتابني الدهشة ويتملكني العجب، الأمر الذي يدفعني إلى القول إنه إذا كان أبناء الإسلام يقدمونه بهذه الصورة، فان تشويهه لا يحتاج إلى أعداء".
وليت الأمر يقف عند حد "الفتاوى المفخخة"، فالقصة غدت أكثر خطورة وشراسة، حين يعتقد نفر من الناس أن من يمتلك علماً كتب عليه "لا إله إلا الله" وقطعة أرض باتساع قبر، أو أكبر قليلا، في وسعه أن يعلن عن إقامة "إمارة إسلامية"، ويبدأ بقطع رؤوس البشر، ورجمهم، وبتر أيديهم، ومنع الموسيقى، معتقداً أنه "يقيم حدود الله"، غير منتبه لما يقترفه من تقزيم للمفاهيم الإسلامية، ومسخ لدور "ولي الأمر" الذي يُعتقد أن واجبه قطع يد السارق، قبل أن يوفر له رغيف الخبز، ويرجم الزاني قبل أن يهيئ له الفرصة للزواج وللعفة.
أكثر من ذلك، رأينا أقواماً يتنادون لـ "الجهاد"، كلما فتح "الآخرون" جبهة هنا، أو هناك، وهؤلاء الآخرون تحديداً هم من يفتحون الحدود للمجاهدين المفترضين، وييسرون لهم سبل الحصول على السلاح، وربما يملونهم به، عبر وسطاء وأطراف أخرى، بعلمهم أم بغيره، لا يهم، و"الإخوة المجاهدون" مأخوذون ومتلهفون للقاء السبعين من الحور العين، وهم لا يعلمون أنهم ينفذون أجندات اللاعب الكبير، الذي يرقبهم ويمولهم، ويسيّرهم كيفما يشاء من وراء حجاب، فتراهم يعتقدون أنهم يحسنون صنعاً، ويتقربون إلى الله جلت قدرته، وهم لا يعلمون أنهم مجرد أداة طيعة في يد ذلك "المعلم!"، يعملون لديه، ويأتمرون بأمره، من حيث لا يشعرون، وحينها تنطبق عليهم تلك المقولة الجارحة: أسوأ أنواع الخيانات تقع، حينما تنفذ مخططات العدو، وأنت تعتقد أنك تتقرب إلى الله، ويصدق هذا على جملة من الحراكات "الثوروية" و"الجهادوية" التي حرقت مستقبل هذه الأمة، أو كادت، تحت عناوين ملتبسة، مثل: إقامة شرع الله في الأرض، أو تحرير الأرض من الطواغيت، أو سوى ذلك من شعارات خيرة طيبة، ظاهرها طاعة، وباطنها بضاعة فاسدة، يراد لها أن تكون وقوداً في تنفيذ ما في رأس "المعلم" الكبير، الذي يسخر لتحقيق أهدافه وسائل إعلام ودولاً وكتاباً وحارقي بخور.
هؤلاء من حيث لا يدرون، لا يختلفون في شيء عن "الدينيين" من حلفاء الاستبداد السياسي، إن لم يكونوا أشد مضاء في إجهاض أي حركة ثورية نظيفة!
 
 
A99D1147-B045-41D9-BF62-AB547E776D3E
حلمي الأسمر

كاتب وصحافي من الأردن