السيسي.. وقاهرة "المُذلّ"

السيسي.. وقاهرة "المُذلّ"

04 نوفمبر 2014
+ الخط -

بين قاهرة "المعز" وقاهرة "المُذلّ" مسافة كبرياء جريحة، ينزف معها وطن عربي، اقترف ذات ربيع حلماً مجنوناً بأن تستعيد مصر دورها القومي الريادي، وتقود الأمة مجدداً إلى عرش الكرامة. ومن المعز لدين الله إلى السيسي المذلّ لخلق الله، قصة ممهورة بالتحولات المباغتة والمدهشة لزعماء مصريين، يغيّرون اتجاهات البوصلة العربية، شمالاً وجنوباً، وسط صحاري الملح، من دون أدنى تمهيد، أو إشارة تنبيه للشعوب التي عليها أن تقبل بما قسم هؤلاء الزعماء لها.

غريب أمر زعماء مصر ومربك، ولا يكاد المرء يصدّق كيف تنجب "بهية" كل هذه التناقضات البشرية بين حمل وآخر، ففي لحظة كنا نتقاطر فيها على المقاهي و"الدكاكين" لسماع آخر خطبة لجمال عبد الناصر (حبيب الملايين)، يقطع علينا الطريق زعيم آخر، مثل أنور السادات، ليريد أن يقودنا كالأغنام إلى "كامب ديفيد" و"الكنيست"، ولنقبّل رأسي بيغن وغولدا مائير، طالبين الصفح والغفران عن كرامتنا التي أيقظها فينا سلفه عبد الناصر بعد سبات، وعن كل "لاءاتنا" التي هذينا بها ذات مؤتمر في الخرطوم، لنستبدلها بكل "نعامات" الدنيا، وعن "احتلالنا" فلسطين التي اغتصبناها من أصحابها الأصليين.

ومن أحمد عرابي الذي تمرد على الظلم والاستخذاء للإنجليز بقولته: "لقد خلقنا الله أحراراً، فوالله الذي لا إله إلا هو، لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم"، إلى الخديوي توفيق الذي كان مؤمناً بأن الشعب كله عبيد لسلالته الحاكمة، حين قال: "أنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا".

على هذه التناقضات، تعاقب حكام مصر، ارتفاعاً وهبوطاً، ومع كل ارتفاع يرتفع ضغط الكرامة في عروق الشعوب العربية التي ترى في مصر "أم الدنيا"، و"زرقاء اليمامة"، والأولى بالقيادة، ثم سرعان ما يخرج زعيم آخر، ليهبط بعزتها وكرامتها إلى أسفل سافلين، ليصبح العرب كلهم "ذيل الدنيا".

وها نحن نشهد في مصر، وفي سنتين فقط، تكراراً للمهزلة السياسية التي توشك أن تطيح آخر درجة ضغط في دمائنا، بعد أن ارتفع بنا ربيعها وصندوق اقتراعها إلى أقصى درجات الحرية، وراهنّا بعد زوال زمن الزواحف السياسية أيام محمد حسني مبارك، بأن تعود مصر إلى حاضنة كرامتنا، وتفاءلنا بخيارات الشعب المصري. لكن، وفي عزّ لحظات التحليق، جاء من يهبط بنا ثانية إلى أدنى من زمن مبارك والسادات.

ومن هو أخطر من كل الزعامات الأخرى، لأن السيسي، هذه المرة، أطلق النار على أحلامنا بالربيع العربي، بعد أن كان الخريف سيداً أوحد أكثر من نصف قرن، وجاء ليدفن إرادة جيل جديد كان مصمماً على التخلص من إرث أسلافه المتخم بالخوف والرعب والاستعباد، وكأني بهذا الزعيم جاء ليطلق نيران مدافعه على المستقبل الذي كان يحمله هؤلاء الشباب.

وجاء السيسي عدواً للتحرر العربي، وللمقاومة الفلسطينية، وعاشقاً لإسرائيل، حيث لا همّ له غير حمايتها، ووأد مناضلي غزة في أنفاقهم التي حفروها بأسنانهم. وجاء ليذل القاهرة وأهلها، ومصر وشعبها، وليدخل الدبابات والبساطير العسكرية إلى الجامعات والمختبرات وغرف النوم، وهو ما لم يفعله أجداده من العسكريين.

ويجيء السيسي محمولاً على برميل نفط ليشعل النار في أحياء القاهرة و"أحيائها"، ويأتي ملفوفاً بأعلام أميركية وصهيونية، ليكمل ما كان يخجل مبارك من إتمامه، من مشاريع تصفوية لآخر رمق في جسد التحرر العربي، ويزيد على بنود "سايكس وبيكو"، ما يدهش الاثنين في قبريهما.
وأخيراً، يبدو أننا سنترحّم طويلاً على أحد "معزّي" القاهرة، الذي رفض أن ينحني لتقبيل يد ملكة بريطانيا، لأنه كان يعلم أن ملايين الأيدي المصرية ستشد معطفه من الخلف. وفي المقابل، سيكون أمراً معتاداً أن نرى رأس "مُذلّ" القاهرة الجديد، ينحني ليقبّل ما هو أدنى من اليد.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.