يحدث في السعودية

يحدث في السعودية

09 مارس 2020
+ الخط -
أيّا كان منطوق بيان الديوان الملكي السعودي الذي لم يصدُر بعد، حتى كتابة هذه الكلمات، بشأن ما ذاع عن اعتقال ثلاثة أمراء (وربما أكثر)، وأيّا كانت وجهة الحقائق المؤكّدة التي تحسم التخمينات والترجيحات التي شاعت، بعد نشر الصحافة الأميركية الأخبار المثيرة، والموجزة، عن هذه الاعتقالات، أيّا كانت، فإن في الوسع أن يجتهد مجتهدٌ ويصيب، إذا ما أعاد الأمر في أصله إلى مظانّه الأولى، وأهمها أن الشعور الطاغي بفائض القوة والسلطة، في حشايا الحاكم المطلق، في نظامٍ مغلقٍ يوجِب الطاعة الكاملة على الرعايا، يذهب بهذا الحكم إلى أن يفعل ما يريد، من دون كثير اكتراثٍ بالذي قد ينجمُ بعدئذٍ. ولعل هذا هو ما أراده عربٌ قدامى في كلامهم عن "شوكة السلطان". وإلى هذا الأمر البيّن، والذي لا يعوزُه برهانٌ عليه، ثمّة النزوعُ في جوانح الحاكم، من الطراز المتحدّث عنه هنا، إلى الانتشاء بالغلبة، بالقدرة على السطوة على من هو أقل قدرةً عليها. ولمّا رحّجت وكالة أسوشييتد برس، في تقديراتها أمس الأحد، أن ولي عهد العربية السعودية، محمد بن سلمان، إنما أراد في حبس عمّه أحمد بن عبد العزيز (78 عاما)، الموصوف بأنه أميرٌ قوي وذو مكانةٍ في الأسرة، أن يعرف الجميع أن لا أحد في منجاةٍ من أي عقوبة. سيما وأن الأخبار الشحيحة التي رشحت أن الرجل إنما تكلم مع بعض جلسائه متذمّرا من غير أمر في إدارة ابن أخيه الحكم، ولم يُرضه وقف الطواف والصلاة في الحرم المكّي، ولو احترازا من "كورونا". 
يكفي أن العمّ جاء على شيءٍ كهذا، بعد امتناعه، بعض الوقت، عن بيعة محمد بن سلمان (35 عاما) وليا للعهد، لمّا أزيح محمد بن نايف من المنصب العتيد قبل ثلاثة أعوام ونيّف، ويكفي أن الأخير لا يأتي العسس من مجالسه بما يُرضي صاحب الشوكة الأولى في المملكة، ويكفي أن ولاء أشقاء وأبناء لهذا وذاك وغيرهما منقوص، يكفي هذا كله (وغيرُه) لاستباق ما قد تتدحرج إليه مشاعر هؤلاء، وما في مداركهم وأخيلتهم، إلى ما قد يقلق ويُتعِب، بخطوة الاحتجاز المسرّب خبرٌ مقتضبٌ عنه إلى منصات إعلامية أميركية ثقيلة، فكان الذي عرفنا وقرأنا عنه، وشرّق كثيرون في أرباع الأرض وغرّبوا بشأن مقاصد هذا الفعل وأغراضه وبواعثه، وما إذا كان صحيحا أنه جال في عقول هؤلاء الأمراء أن يدبّروا انقلابا، بعونٍ من ضباط وعساكر، على ولي العهد، أو غير صحيح. والبادي أن من يسيّرون الإعلام الشديد الرسمية في محيط محمد بن سلمان أرادوا أن تطول حبال الكلام الكثير، ويُزاد ويُعاد في القيل والقال، بشأن الذي جرى، وأن يثرثر من أراد أن يثرثر في الأمر، بعض الوقت، ولو جنح بعضٌ إلى كلام عن موت الملك أو احتضاره، قبل أن يُفاجَأوا به يستقبل سفيريْن معينين، وفي لياقةٍ صحيةٍ ظاهرة. وذلك كله، على الأغلب، لينطبخ البيان المرتقب، والمؤشّر إليه في السطور أعلاه، جيدا، وينْحبك، إن قال بانقلابٍ حاوله المحبوسون، أو باشتباهٍ بهم يستحق إنفاذ قانونٍ ما بشأنهم.
ولا يدري واحدُنا بماذا يعقّب على تخمينات وتحليلات، يتبيّن، بعد وقت، المدى الذي اقتربت فيه من الحقيقة أو ابتعدت عنها، غير أن في الوسع أن يقال إن العربية السعودية ليست في حالٍ يسرّ الخاطر، وإنه ليس سرّا، ولا قراءةً في الفنجان، أن قدرا غير هيّن من الاضطراب يحدُث في الأسرة الحاكمة في هذا البلد البالغ الأهمية والحساسية، ولا بأس من تقديره اضطرابا غير مسبوق، أي ليس كالذي جرى لمّا أزاح فيصل بن العزيز شقيقه الملك سعود، وأخذ العرش منه في 1964، ولا لمّا قتل فردٌ من الأسرة، قيل إنه ملتاث، فيصل نفسَه في 1975. وليس اضطرابا كالذي كان يثيره حال طلال بن عبد العزيز الذي بدا "منشقّا"، ورُمي مراتٍ بالثورية. كانت سدودٌ، منيعة إلى حد كبير، تسيّج أسرة أبناء الملك عبد العزيز وأحفاده، تحول دون مثل الذي صار ينقال منذ شهور، بلا ضوابط أحيانا، عمّا يمكن أن يلحق بالمملكة، لو صحّ ما ينقله عارفون وخبيرون، وكذا ما ينكتب في غير صحيفةٍ أميركية، وأيضا لو صحّ أن أخيلة محمد بن سلمان يتوطن فيها أنّ لا شوكة بعد شوكته، فعبث الأقدار (مع الاعتذار لنجيب محفوظ) ومكر التاريخ قد يفعلان ما لا يدري عنه هذا الشاب، ولا كاتب هذه السطور طبعا.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.