شيء عن منصّة "الذاكرة السورية"

شيء عن منصّة "الذاكرة السورية"

07 مايو 2024
+ الخط -

قد لا يضيف أيٌّ منّا جديداً لو استرسل في الحديث عن وجوب حماية روايتنا عن كل ما يخصّنا، عن ضرورة صيانة ذاكرة كل أمةٍ وكل شعب، غير أن لأيٍّ أن يقول إن هذا يتطلّب معرفة علمية مدقّقة بكيفيّاته، فليس هناك ما هو أسوأ من الارتجال والتلفيقية والتسرّع في أي جهد يتغيّا أمراً كهذا. ولقائل أن يستفيض في أن كل عملٍ في هذا الخصوص تلزمُه، أولاً وقبل أي شيء، رؤية تؤطّره. ومع التقدّم التقني في علوم الأرشفة (وفنونها إن شئت)، لم يعُد الكلام في هذا الأمر يتعلّق فقط بالذي يؤرَّخ ويدوَّن ويُحفظ ويصنّف ويفهرَس ويبوّب، وإنما أيضاً بطرائق العرض ويسر البحث وأساليب الوصول إلى المعلومات، وليس يغيبُ عن أحدٍ في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين أن الإشارة هنا إلى النظم الرقمية (الكمبيوترية؟) التي تيسّر أكثر السبل مرونةً وجاذبيّةً وسهولةً من أجل الذي نتوخّاه في مقصدنا في ذلك كله.
تأخًذ منصّة الذاكرة السورية (syrianmemory.org) التي أطلقها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أمس بالبديهيّات هذه، غير أن الأدعى إلى الانتباه الرؤية التي انطلق منها الجهد الكبير في إنجازها، وموجز القول عنها إنها رؤيةٌ تصدُر عن وعي خاص بوجوب توثيق مروياتٍ بلا عدد عن وقائع الثورة السورية، وتهيئة موادّ متنوعة المداخل والخصائص والأبعاد في الموضوع السوري. وعندما نتحدّث عن مئات آلاف المواد، و900 ألف فيديو، و25 ألف يومية، ومائة ألف وثيقة، وغير هذه كلها من نصوصٍ ومرئيات، على ما يُخبرنا المشرف على المشروع وقام عليه مع فريقه، عبد الرحمن الحاج، فإنك لا تملك إلا أن تُشهر إعجابَك بالعمل المضني في جمع هذا كله (وغيره) وتصنيفه وتبويبِه وتحريرِه، فضلاً عن المعالجات التقنية والفنية التي توفر الوصول إلى أيٍّ من المواد التي يحتاج إليها الباحث والمؤرّخ والكاتب. وعندما تعرف أن حضوراً كبيراً لمصنّفاتٍ من التاريخ الشفوي المتصل بالثورة السورية، وأن حضوراً آخر لنتاجاتٍ فنّية وأهازيج وأغنيّات، فذلك من شواهد غير قليلة على إحاطة المنصّة بجوانب عديدة تتصل بالاجتماعي والسياسي والثقافي في سورية في غضون انتفاضاتها ضد نظام الفساد والاستبداد. وبذلك يصير حقّاً إشهار المركز العربي أن مشروعه الكبير هذا أضخم أرشيفٍ موثوقٍ ومدقّقٍ بشأن الأحداث في سورية منذ اندلاع الثورة، سيّما أن المليون وثيقة أرشيفية جرى التحقّق منها ومن بياناتها. ولهذا في الوسع أن يقال إن ثروةً مثل هذه، وبهذا الغنى، وباليُسر التقني الذي يتيحها، تمثل قاعدة بياناتٍ ذات نفعٍ ثقيل، سيّما أن من هذه المواد شهاداتٌ حيّة وشفويةٌ لفاعلين كانت لهم أدوارٌ ومهمّاتٌ في أحداث سورية في معارك ومواجهاتٍ، وفي مداولات سياسية، محلية وإقليمية ودولية، وفي مساهماتٍ إغاثية وفي غير شأن وشأن.
يؤكّد، إذن، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فاعليّته في إطار المنظور التي ينتظم ضمنها ما يُراكمه من عملٍ بحثيٍّ وتوثيقيٍّ وأكاديميٍّ وثقافي، في سياقٍ عربيٍّ موصولٍ بالهمّ العام والأفق الديمقراطي وحاجة الأمة العربية إلى مشاريع معرفية معنيّة بالراهن والماضي والمستقبل. ومعلومٌ أن الشأن السوري، في مختلف أبعاده وأصعدته، كان واحداً من أهم القضايا التي اعتنى بها المركز، وخصّص لها مؤتمراتٍ وملتقيات، واستكتب لها كثيرين من أهل الدراية والبحث، فساهموا في إنتاج دراساتٍ وقراءاتٍ ومطالعاتٍ متنوّعة في سياقه. وهذا هو مشروع توثيق أحداث الثورة السورية وأرشفتها في منصّةٍ رقميةٍ متطوّرة، قام على بنائها، منذ 2019، فريق باحثين سوريين مختصّين، وسهر على تنفيذ متطلبّاتها التقنية اللازمة، بمحرّكات بحثٍ متقدّمة، يؤكّد المؤكّد، وقد كانت وجهة العمل في إنجازها أن يكون مدقّقاً موثوقاً. وإذا ما وقع متصفّح زائر للمنصّة على نقصٍ في هذا الحيّز أو ذاك، فإن الكمال لله، وإن كل منجزٍ بشريٍّ لا يتطوّر إلا بالمتابعة والمثابرة على أن يكون أجودَ وأفضل. وتُخبرنا تجارب وشواهد تتابعت منذ انطلق المركز العربي للأبحاث قبل 14 عاماً أنّ لنا أن نكون في ثقةٍ من تميّز هذه المنصة الجديدة التي تنضاف إلى غيرها من مشاريع مثيلة نجح المركز في تعزيزها.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.