نحو استراتيجية فلسطينية جديدة

نحو استراتيجية فلسطينية جديدة

03 يناير 2022
+ الخط -

جاهلٌ في السياسة من لا يقرأ الكتابة على الحائط. نحن في الرمق الأخير لاستراتيجية الرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، المقتصرة على المفاوضات ثم المفاوضات والإيمان الأعمى بالمفاوضات. لقد أرسل إشارة علنية، في لقائه أخيراً، مع مستشار الأمن القومي الأميركي، جاك سوليفان، أنّ الاتجاه الفلسطيني المستقبلي سيتحدّد في اجتماع المجلس المركزي لمنظمة التحرير المقرّر عقده في مارس/ آذار المقبل.
وقد تكون الإشارة نفسها قد أرسلها أبو مازن في لقائه المفاجئ مع وزير الدفاع الإسرائيلي، بني غانتس، إذا ما كنا نسترشد من أقوال من رتّب الاجتماع وحضره الوزير حسين الشيخ، والذي غرّد وقال لكاتب هذه السطور إنّ الرئيس الفلسطيني أعلم رئيس جيش الاحتلال أنّه من دون أفق سياسي لن تنجح المحاولات الاقتصادية/ الأمنية. وحسب الشيخ، فإنّ ما قاله الرئيس في منزل غانتس هو ما يقوله الأميركان للإسرائيليين وإن على خجل، إذ تريد واشنطن أن تخرج من عنق الزجاجة مع إيران أولاً.
إذاً، نحن مقبلون على تقييم كامل وشامل لما وصلت إليه الدبلوماسية الفلسطينية، وتحديد المسار الذي يجب أن يمضي به الشعب الفلسطيني. وإذا كان هذا التحليل صحيحاً، فنحن في حاجة إلى عدة أمور أساسية، قبل الشروع في مثل هذا الأمر الاستراتيجي.

من الخطأ ترك القرار في عدد محدود من القيادات في غياب عن المزاج الوطني الفلسطيني

أولاً وقبل كلّ شيء، على جميع الأطراف التوقف عن إطلاق عبارات التخوين والتكفير السياسي وغيرها، واعتماد الصدق والمصلحة العليا في العمل على تقييم جدّي وعملي وواقعي، ووضع استراتيجية منطقية، يمكن أن يلتفّ حولها أكبر عدد من أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج.
الأمر الآخر المهم تحديد من هي الجهة أو الجهات التي تتكلف باتخاذ مثل هذه القرارات المصيرية. لقد شكّل إلغاء الانتخابات التشريعية والرئاسية، وتحديد ممثلي الشعب الفلسطيني في المجلس الوطني، إضاعة فرصة ثمينة كان من الممكن أن تساعد في قيادة عملية التقييم والتخطيط المستقبلي. والآن، بدلاً من وجود قيادات شعبية محلية وفي الشتات، ممثلة للشعب، أصبحنا في غياب أيّ جسم تمثيلي، فمنظمة التحرير، والتي تم إضعافها، عن قصد أو غير قصد، لم تعد الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني. الفصائل المنضوية داخلها، وأهمها حركة فتح، منقسمة إلى أكثر من تيار وتوجه، وسيكون من الصعب أن يخرج علينا أحدٌ يمثل المنظمة بصوت واضح. والجانب الآخر ليس أكثر وحدة، فعلى الرغم من الظهور الوحدوي من الخارج، فإنّ التيار الإسلامي الأكبر (حركة حماس) غير متناغم في الفكر ما بين العمل الوحدوي مثلا في موضوع المقاومة الشعبية والرغبة في التصعيد العسكري، والأمر نفسه ينطبق على حركة الجهاد الإسلامي، ولو بنسبة أقل، لناحية غياب الوضوح في آلية العمل المقاوم في المستقبل.
ضرورة الوحدة ليست مهمة فقط من أجل الوصول إلى استراتيجية وبرنامج ونشاطات متفق عليها، بل هي أيضا مطلوبة بين الفصائل والشعب، فمن الخطأ ترك القرار في عدد محدود من القيادات في غياب عن المزاج الوطني الفلسطيني، والأهم الاستعداد للتضحيات ودفع ثمن أي استراتيجية يتم إقرارها، فمعروفٌ أن من يدفع الثمن ليس بالضرورة من يتخذ القرار، وهذا أمر نحن جميعا في حاجةٍ ماسّة للعودة إليه.

للقضية الفلسطينية اليوم دعم شعبي عربي وعالمي أكثر من أي وقت سابق

وأخيراً، لا بد من فتح المجال لقيادات جديدة، يتم إعطاؤها فرصة للتنقل، تعكس رأي الشعب الصامد ومزاجه. وكانت الانتخابات ولا تزال آلية ممتازة لتجاوز الوضع الحالي، إذ وصل معدل عمر الأشخاص في مواقع قيادية إلى سبعينياتهم، وقد يقترب من عمر الرئيس أبو مازن (86 عاماً).
قد يقول قائل إنّ أيّ قرار ثوري بحاجة إلى قيادات شجاعة، ويجب ألّا يتم بالطريقة الديمقراطية، مثل انتخاب رئيس بلدية أو ممثل مجلس طلبة. هذا صحيح، لكنّ الوضع الفلسطيني أكثر تعقيداً، وفي حاجة إلى أن يشمل أي قرار وطني صادق كلّ وجهات النظر والتوجهات الوطنية والإسلامية في الداخل والخارج. كما يتطلب أي قرار تقييماً صادقاً وواقعياً للوضع الفلسطيني الحقيقي، من دون أن يكون التقييم السلبي مدخلاً للإحباط والانبطاح، لكن بهدف وضع استراتيجية قادرة على النجاح. وللقضية الفلسطينية اليوم دعم شعبي عربي وعالمي أكثر من أي وقت سابق. وقد كان رفع العلم الفلسطيني في مباريات كأس العرب في الدوحة خير دليل على ذلك. لكنّ معظم مؤيدي الشعب الفلسطيني غير مقتنعين بالقيادة الفلسطينية، وهذا يتطلب العمل الجاد على إعادة إقناعهم بضرورة العمل معاً.
في ظل الضجيج السياسي الحالي، من الصعب الوصول إلى تقييم صادق، وبناء خطة قابلة للتنفيذ، تحوز دعم الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج.. المطلوب مصارحة الشعب وضرورة توفر بيئة قابلة للنقد البناء وشجاعة، لمن هم في القيادة التنحّي وتحمّل مسؤولية ما وصلنا إليه من تراجع على الأرض، رغم عدالة قضيتنا ودعم الشعوب العربية والإسلامية والعالمية لنا.