ما بعد موت السياسة في المغرب

ما بعد موت السياسة في المغرب

18 يناير 2023

مشهد من السوق في الرباط القديمة (2/4/2022/الأناضول)

+ الخط -

قُتلت السياسة في المغرب على مراحل وعبر عقدين. كانت البداية مع الطعنة التي تعرّض لها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عام 2002، عندما تصدّر نتائج انتخابات ذلك العام، لكن إرادة القصر الملكي اختارت وزيرا أول تكنوقراطيا ليقود الحكومة. وأُفسدت السياسة مرّة أخرى، عندما قرّر القصر إيجاد حزب سياسي من فراغ، جمع حوله انتهازيين ووصوليين وفاسدين. ووضعت الدولة أول جرعة للقتل البطيء للسياسة في دستور عام 2011 الذي التفّ على مطالب الشعب. وزادت شعبوية (ونفاق) الحزب الإسلامي، الذي قاد الحكومة طوال عقد، من إفراغ السياسة من كل معنى نبيل. وكانت الضربة القاضية للسياسة في المغرب، في آخر انتخابات شهدتها البلاد في سبتمبر/ أيلول عام 2021، هيمن فيها المال لشراء أصوات الناخبين، وأفرزت حكومة هجينة من أحزابٍ سياسيةٍ قاعدتها الشعبية الكبيرة من أصحاب المال والمصالح. وعلى بعد سنةٍ من تنصيبها، دخلت البلاد مرحلة يمكن وصفها بأنها "ما بعد موت السياسة"، تتجلّى أهم مظاهرها في برلمان فاقد للمصداقية، تحول إلى غرفة تسجيل كبيرة، وحكومة شاردة غير منسجمة، كل وزيرة أو وزير فيها يغرّد حسب مصلحة حزبه أو مصلحة من يدين له بتعيينه في منصبه الوزاري. يجمع رئيسُها ما بين السلطة والتجارة، تلاحقه شبهات الربح "المشبوه" في تجارته، كما أكّد ذلك تقرير صادر عن "مجلس المنافسة"، وهو مؤسسة دستورية رسمية في المغرب.

أما عضوات الحكومة وأعضاؤها، فتحولت فضائحهم إلى مواد للتنكيت والسخرية والنقد على مواقع التواصل الاجتماعي، وبدلا من الاعتراف بأخطائهم أو توضيح (وتفسير) مواقفهم التي تجرّ عليهم سخط الناس وسخريتهم، نجد أن أغلبهم يزدرون الشعب ويحتقرونه، كما فعل أخيرا، وزير العدل عبد اللطيف وهبي، الذي تلاحقه فضائح عديدة، جديدها أخيرا فضيحة نتائج امتحانات المحاماة وما رافقها من شبهاتٍ بشأن شفافيتها ونزاهتها. وفي الوقت الذي كان ينتظر منه الرأي العام توضيح ما جرى وفتح تحقيق شفّاف لتهدئة النفوس، صعد الشجرة، وبدأ يرجم الناس بثمارها العفنة!

سئم أغلب الناس في المغرب من متلازمة "شعبوية" السياسيين، ولم يعودوا يأخذون على محمل الجدّ كلّ ما يصدر عنهم

لا يتعلق الأمر بفشل نهج سياسي معين في حل مشكلات المجتمع المغربي المتراكمة، وإنما في فشل السياسيين المغاربة في تمثل القيم الكبرى للعمل السياسي، إلى درجةٍ فقد معها المواطن صبره وثقته بالحكومة، كما أظهر ذلك استطلاع رأي أنجزه المركز المغربي للمواطنة، وهو مؤسسة مستقلة، بيّن أن "أكثر من يُقوّض الثقة في الحكومة والسياسة" هو رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، الذي يستفيد من غلاء المحروقات، لامتلاكه أغلبية أسهم واحدةٍ من أكبر شركات المحروقات في البلاد. وكان ثاني أكبر عامل يُسهم في فقدان الثقة في الحكومة، حسب ما كشف عنه الاستطلاع نفسه، تقلُّب المواقف السياسية لوزير العدل، وفي الدرجة الثالثة جاء رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، من بين الشخصيات السياسية المغربية التي تُسهم في فقدان الثقة في السياسة بسبب تناقضات مواقفه ما قبل رئاسته الحكومة وما بعدها. وفي المجمل، أكّد 82% من المشاركين في الاستطلاع أنهم لا يثقون في الحكومة، و77% لا يثقون في المعارضة، و81% يعتبرون أن الأحزاب لا تقوم بأدوارها. وحسب الاستطلاع نفسه، يطاول الاستياء وعدم الرضا على الحكومة جل الملفات الاجتماعية والاقتصادية التي تشرف عليها، من التعليم إلى محاربة الفساد، مرورا بالغلاء وأسعار المحروقات والعدالة الجبائية وغيرها.

سئم أغلب الناس في المغرب من متلازمة "شعبوية" السياسيين، ولم يعودوا يأخذون على محمل الجدّ كلّ ما يصدر عنهم، أو يستمعون إلى المبرّرات اللا نهائية التي يطرحونها بزعمهم أنّه فقط لو أعطي لهم مزيد من الوقت، وتركوا يتصرّفون في أموال دافعي الضرائب يمكن أن يحلّوا مشكلات الناس، في حين أنّ هذه المشكلات تتراكم وتزداد تعقيداً مع مرور الوقت.

وفي ظل هزيمة النخب وتدجينها من أصحاب السلطة والمال، أصبحنا نعيش عودة جديدة إلى نوعٍ من الإقطاع الحديث، ترمز إليه طبقة حاكمة ذات طابع أوليغاركي، تهيمن على كل منافذ الحياة، وهي في الواقع ليست أكثر من جوقةٍ وظيفتها زخرفية بالدرجة الأولى، فيما يحتدم صراع المواطن المغربي اليومي مع الغلاء والفساد، عدويه اللدودين، لأنّهما يدمّران النسيج الاجتماعي والاقتصادي للبلد، ويجعلان الناس يجثون على ركبهم، لمزيد من الإذلال وإهانة الكرامة المفقودة.

ضراوة في التدهور السياسي في المغرب، إلى درجة يمكن معها الحديث عن موت السياسة، بعدما تحوّلت إلى مشهد أرض قاحلة

أما السياسة فقد أصبحت بالفعل بلا حول ولا قوة. لذلك ابتعد الناس عن المشاركة في الانتخابات، ويبتعدون يومياً عن الاهتمام بالمسؤولين المنتخبين، لأنّهم لا يرون فيهم سوى كائنات تقتات على الريع السياسي، وتعِيشُ عَالَةً على كاهل دافعي الضرائب لتؤمن لنفسها ولأسرها حياة مريحةً وعيشةً بعيدة عن المآسي التي يكابدها المواطن المغلوب على أمره يومياً من أجل قوت عيش يحفظ له كرامته.

ثمّة ضراوة في التدهور السياسي في المغرب، إلى درجة يمكن معها الحديث عن موت السياسة، بعدما تحوّلت إلى مشهد أرض قاحلة، فإذا كانت الديمقراطية الحقيقية التي تعني التداول السلمي على السلطة عبر إرادة الشعب المعبَّر عنها في الانتخابات، قادرة عن تجديد دمها بنفسها عبر دورات الانتخابات، ففي الديمقراطيات ذات التعدّدية المزيفة لا تؤدّي فيها الانتخابات الشكلية سوى إلى إعادة تدوير النخب السياسية الفاسدة نفسها في إطار التناوب الشكلي، لأنها، في هذه الحالة، تكون فاقدة قدرتها على أن تجعل الناس يتصرّفون بطريقة مستقلة وسيادية لاتخاذ خياراتٍ غير التي يفرضها عليهم حاكموهم.

لكن، رغم كل ما قيل عن موت السياسة في تجارب غير التجربة المغربية، فإن محاولات قتلها تذهب عبثا لأنها تتواصل عبر أشكال أخرى، وغالبا خارج المنظومة التي تحاول خنقها، وتعيش وهم القدرة على السيطرة عليها والتحكّم فيها، لأن السياسة ستبقى ضرورية لدورها الفاصل والحاسم، عندما تمارَس بأخلاق، في الحفاظ على السلم الاجتماعي وتنمية المجتمع، وقد حان الوقت لإنقاذها قبل فوات الأوان، لاستعادتها من تجارها، باعتبارها الوسيلة القادرة على إنقاذ جيلٍ حائرٍ ويائس من المغاربة فقدوا ثقتهم في السياسة والسياسيين، فعودة ظهور السياسة في حياة الناس والمجتمع أمر حتمي، لأنه لا يمكنهم الاستغناء عنها، والحديث هنا عن السياسة بمفهومها النبيل التي يكون فيها المواطن سيد القرار، لا تلك التي تسلب منه حرية اختياره وتفكيره، وإلا سيتوجب انتظار ظهور "دابّة الأرض"، تلك التي وردت في القول المُحكم "وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ".

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).