في فشل الاجتياح البرّي قبل أن يبدأ

في فشل الاجتياح البرّي قبل أن يبدأ

14 نوفمبر 2023
+ الخط -

يكاد التحليل السياسي لتطورات الحرب الإسرائيلية على غزّة يصبح عصيا على التنبؤ باحتمالات مآل هذه الحرب، فلا يوجد منطق يحكم السياسات المتّبعة على كل الجبهات. ويبدو التخبط الإسرائيلي السمة الأبرز لمجمل العمليات العسكرية والتحرّكات السياسية، خصوصا في مسألة تأجيل إسرائيل الاجتياح البرّي الشامل لغزة بهدف القضاء على حركة حماس، بالرغم من اعتبارات عديدة وازنة تعرقل هذا الاجتياح، واستعاضت عنه بتوغّلات برّية متتابعة منذ أكثر من أسبوعين. إذ ليس ثمّة ما هو أكثر بداهة من خوف جيش الاحتلال من الاجتياح البرّي بالرغم من التهديد به بصلف وغرور. ورغم تصريحات كبار القادة العسكريين عن عدم جاهزية هذا الجيش لهذا الاجتياح الشامل أو حتى المتدرّج، فالخسائر المتوقعة ستكون فادحة في صفوف جنوده وضباطه والنخب العسكرية الراجلة وهي كذلك، وإن يتم التعتيم عليها إسرائيليا.  
وتكمن أسباب هذا التردد والتأجيل أيضا في حقيقة الأرض التي يحفظها مقاتلو فصائل المقاومة عن ظهر قلب، فضلا عن انتشار الأنقاض والركام بين الأحياء السكنية والشوارع الفرعية والرئيسية، كما الأنفاق. بل باتت هذه الأنقاض وسيلة للمناورات الفردية والتفخيخ مهما حاولت إسرائيل تجريفها قبل بدء التوغلات أو الاجتياح المزعوم. إذ يُقلق كبار جنرالاتها تورّطهم في حرب شوارع أو وفق أسلوب "اضرُب واهرب"، حيث باتت الدبابات أهدافا سهلة للمقاومين، كما المدرّعات العسكرية وحاملات الجند. فضلا عن تفوّق المقاتلين الفلسطينيين في الشجاعة والبسالة بالمقارنة مع ضبّاط جيش الاحتلال وجنوده حين تكون الحرب وجها لوجه، فمشهود لهم بالبراعة القتالية، وتلك حقيقة يعرفها العدو الإسرائيلي جيدا. وكانت عملية طوفان الأقصى خير دليل عليها. كل التوغلات البرّية التي يقوم بها الجيش بدت نوعا من استطلاع بالنار، كي تتأقلم قوات الاحتلال مع الميدان، ولكسر حال الهلع الذي ينتاب الجنود كلما أزفت لحظة الاجتياح البرّي، أو نوعا من التدريب بالنار على هذا الاجتياح، وأيضا لجمع المعلومات وجسّ نبض المقاتلين الفلسطينيين من خلال عمليات تكتيكية، ما يعكس حجم القلق من المواجهة البرّية مهما كان عنف قصف العدو التمهيدي، ومهما تصاعدت كثافة القتل والغارات الجوية الإجرامية التي هي السمة الأبرز للعمليات العسكرية، بدل أن تكون مجرّد قصف تمهيدي للاجتياح البرّي بحسب قوانين الحرب المتعارف عليها. ولكن ثمّة حقيقة يغفلها العدوّ المصاب بجنون العظمة وانعدام الشعور الإنساني، أن القلوب الغزّية ممتلئة حتى النخاع بالغضب والكراهية جرّاء عمليات الإبادة الجماعية التي يمارسها جيش الاحتلال على أهل غزّة، أدّت إلى خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، زادت من حدّة المواجهات العسكرية على الأرض، فلتلك الإبادة الجماعية ثمن سيدفعه جيش الاحتلال سنوات لاحقة كضريبة دم لن ينساها الشعب الفلسطيني، إن في غزّة أو عموم فلسطين التاريخية والشتات، فجيش الاحتلال لا يخوض حربا، بل يقترف جرائم حرب لا أكثر. ولهذه الجرائم ثمن باهظ ستدفعه إسرائيل لأجيال عديدة لاحقة، ومحاسبة لن تبدأ بتآكل سمعة جيشها فحسب، بل ينزع عن إسرائيل صفة الدولة، ويغلّب عليها صفة العصابات المجرمة لا أكثر. بل ستدفع إسرائيل ثمنها من وجودها حتى كدولة، رغم فرط القوّة الذي يغريها ويشجّعها على التوغل في الدم الفلسطيني من دون أن تعبأ بآثار هذه الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني على مصير البشرية التي هبت جموعها للتنديد بهذه الجرائم السافرة.

تتكبّد وستتكبّد إسرائيل في المواجهة البرّية خسائر فادحة، فالحرب الحقيقية والمعارك الفاصلة هي التي تجري على الأرض

وحتى لو قامت إسرائيل بالهجوم البرّي الشامل لتحقيق القضاء على "حماس" وبنيتها التحتية، فإنه سيكون تفصيلا صغيرا في تاريخ جيش الاحتلال، ولن يشكل تجربة يمكن التعلم منها وإضافتها إلى التجارب العسكرية التي تخوضها الجيوش عادة، وحتى لو حققت أهدافها، ولن تتحقق حتما، لأن التشكيل العسكري غير التقليدي لحركة حماس ولكل فصائل المقاومة، بل ولأي حركة مقاومة لا يسمح بذلك، إذ هي بنية غامضة تمتاز بسيولةٍ يصعب الإمساك بها، أو تحديد تحرّكاتها، أسوة بأي مقاومة شعبية تعيش بين أحضان بيئتها. ولن يعدو أي اجتياح برّي شامل إلا أن يشكل فرصة مغرية ينتظرها المقاومون بفارغ الصبر، كي يكيلوا للعدوّ الصاع صاعين وثلاثة، ما يزيد من شراسة المواجهة، وملاحم في البطولة والفداء سوف يكتب التاريخ عنها، كما عن معركة طوفان الأقصى. 
بالتأكيد تتكبد وستتكبد إسرائيل في المواجهة البرّية خسائر فادحة، فالحرب الحقيقية والمعارك الفاصلة هي التي تجري على الأرض. أما السماء فتعني لإسرائيل ارتكاب الجرائم بحقّ المدنيين والبنى التحتية واستعراض للوحشية أكثر مما هي تمهيد للهجوم البرّي الذي يبدو أن جيش الاحتلال سيتدرّج فيه عنفا وتصعيدا، كي تعطي انطباعا باقتراب لحظة الصفر التي يسبقها قصف تمهيدي عنيف، برّا وجوّا وبحرا. لكنها تكتيكات عسكرية تلجأ إليها إسرائيل تجنّبا لهذه للخسائر الفادحة ولتبرير تأجيل هذا الهجوم، لا يرتبط فقط بصفقة محتملة للإفراج عن الرهائن، بل بسبب الخلافات الحادّة بين صناع القرار الإسرائيليين السياسيين والعسكريين. كما أن توجس الإدارة الأميركية من تأثير ذلك على ملفّ الرهائن يضعها في موقف صعب، خصوصا مع تصاعد الضغط الشعبي الأميركي والعالمي لوقف إطلاق النار.
لن تكون هذه المواجهة البرّية، إن حدثت فعلا، مجرّدة من مشاعر غاضبة أو مكبوتة تؤجّجها وحشية الجرائم الإسرائيلية فقط، بل  ستعبّر عن حدّة هذا الصراع الوجودي بين الصهاينة بكل أطيافهم والفلسطينيين/ات أينما كانوا، وليس فقط في غزّة، فهذا الهجوم البرّي يتوقّع له أن يواجَه بالروح الفلسطينية الكبرى التي شهدها العالم بأسره في هبّة أيار/ مايو 2021، تلك الروح الكبرى الممتدّة على طول الجغرافيا الفلسطينية في الداخل والشتات، وعلى امتداد تاريخ تُروى سرديته الفلسطينية على شاشات التلفزة وعبر قنوات التواصل الاجتماعي في العالم.

الوحشية غير المسبوقة في تاريخ الحروب الإسرائيلية التي ترتكبها القوة الجوية تنزع صفة الحرب عن هذا العدوان الغاشم

ولكن هناك حقائق أخرى يدركها الشعب الفلسطيني، تترافق مع التهديد باجتياح برّي واسع لغزّة، تؤشّر إلى مؤامرة دولية على الشعب الفلسطيني بأكمله، الهجوم البري الإسرائيلي أحد عناصرها، ويتخذ التحليل فيها طابعا سياسيا، وإن تراجعت النبرة الأميركية والغربية قليلا (في الظاهر) عن النبرة القاسية التي تحدّث بها الغرب منذ عملية طوفان الأقصى دعما مطلقا لإسرائيل. وما طرحُ حلّ الدولتين وفتح ممرّات آمنة لإيصال المساعدات الإنسانية إلا رماد يذرّ في العيون للتغطية على أنها مؤامرة دولية وغسل أياد كثيرة متورّطة في الدم الفلسطيني. وما استمرار جرائم الإبادة، والمحاولات المستميتة لتهجير أهالي غزّة قسريا، إلا جوهر هذه المؤامرة التي استدعيت من أجلها حاملتا الطائرات الأميركيتان فورد وإيزنهاور وسفن حربية أوروبية. وما تحذير خصوم إسرائيل من التورّط بهذه الحرب (إيران وأذرعها الإقليمية، حزب الله خصوصا) إلا تفصيل في هذا السياق، يعكس جدّية هذه المؤامرة. بالتوازي مع انخفاض نبرة الاستنكار الدولية الرسمية عبر مساواة الضحية الفلسطينية بالجلاد الصهيوني، ما يعكس التقاطعات والتحالفات الدولية والإقليمية مع الغرب.
ولكن الوحشية غير المسبوقة في تاريخ الحروب الإسرائيلية التي ترتكبها القوة الجوية تنزع صفة الحرب عن هذا العدوان الغاشم، وتجعلها جرائم ضد الإنسانية، شكلت فضيحة أخلاقية للمجتمع الدولي من الصعب طمسها. إذ تسبّبت بمظاهرات احتجاج كبرى في العالم لدعم أهل غزّة سوف تؤثر، عاجلا أم آجلاً على صناع القرار ممن تورّطوا في هذه المؤامرة الدنيئة العلنية، قد تؤثّر في خفض سقف أهداف العملية العسكرية، البرّية تحديدا، خصوصا مع اقتراب الانتخابات الأميركية وفقدان نتنياهو شعبيته داخل المجتمع الإسرائيلي وحزبه (الليكود)، ما قد يقصّر أمد هذه الحرب، ويحوّل الاجتياح إلى مجرّد توغّلات متتالية، تُفضي إلى هدنة طويلة، أو وقف لإطلاق النار، من غير أن تحقّق العملية العسكرية المعلن عنها أهدافها.