في ذكرى يوم الأرض

في ذكرى يوم الأرض

14 ابريل 2022
+ الخط -

حَلَّت قبل أيام الذكرى السادسة والأربعون ليوم الأرض (30 مارس/ آذار 1976) لتُذَكِّرَنا بالحال والمآل الفلسطينيين، حَلَّت هذه السنة مصحوبة بإحساس يشير إلى أن القضية الفلسطينية لم تعد كما كانت. معروفٌ أنها لم تعد كما كانت منذ نهاية القرن الماضي، وأن لأزمنة النكبة والهزيمة وأحلام السلام، آثارها الصانعة أوجها كثيرة من تحولات القضية في تاريخنا، إلا أن الإحساس الذي صاحب زمن الذكرى هذه السنة بلغت مرارته درجتها القصوى.. أبحث في يوم الذكرى، عن الأرض والبشر والتاريخ، فأواجه فراغاً كبيراً، أبحث عن المقاومة والسلام وإجراءات اتفاق أوسلو، فلا أعاين إلاَّ صُور الغطرسة الصهيونية.. أتذكّر مآلات الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وأفكّر في مآلات فلسطينيي الشتات، أعدّد أوهام الحكم الذاتي وشيخوخة التنظيمات الفلسطينية.. ينتابني شعور بوجود فراغ فلسطيني كبير، فراغ يفسح المجال أمام نوعٍ من النسيان الذي يمهد لكل ما لحق القضية من تقلُّصٍ في دوائر الصراع والمواجهة.. وإذا كنا نؤمن بعدالة القضية الفلسطينية، فإن الإيمان وحده لا يكفي.. إنه يتطلَّب مواصلة بناء كل ما يساعد على إعادة الروح إلى المشروع الوطني الفلسطيني.

تحلّ الذكرى لتدفعنا إلى مواجهة كل ما لحق القضية الفلسطينية من أعطاب سياسية وتاريخية، ولتكون مناسبةً لتشخيص مستجدّات الوضعين، الفلسطيني والعربي، ومراجعة تاريخ صراعنا مع الصهيونية ومع أساليبها العنصرية المتواصلة، وهي تواجه تطلعات الشعب الفلسطيني، الرامية إلى تحرير وطنه وبناء دولته المستقلة. تحلّ ذكرى هذه السنة، ونحن نُعاين بالواضح جملة من العلامات التي تُؤَشِّر إلى التحوّلات التي عرفتها القضية منذ نهاية القرن الماضي، وبداية مسلسل اتفاق أوسلو وإجراءاته وقيوده. وقد تكون بعض هذه المؤشّرات قد برزت قبل ذلك، إلا أن المؤكّد اليوم أن المشروع الوطني الفلسطيني أصبح مُهدّداً أكثر من أي وقت مضى، في زمن يواصل فيه الكيان الصهيوني سطوته وتوسّعه، اختراقه الأنظمة العربية، حيث أصبح اليوم يتحرّك في سياق الإعداد الفعلي لمشروع الشرق الأوسط الجديد، "صفقة القرن" ومشروع "تنمية ونهضة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"! بقيادة داعمه الأكبر، الغرب والولايات المتحدة. وبناء عليه، ينبغي أن يكون التوقف اليوم أمام الذكرى في مستوى التحدّيات الجديدة التي تتجه إلى مزيد من تهميش القضية ونسيانها.

هذا أوان تبلور وعي فلسطيني جديد يُمَهِّد لإمكانية التحرّر والتحرير

تحمل مواصفات ذكرى يوم الأرض الاسم الذي يدفعنا إلى مزيد من المقاومة من أجل استعادة أرض فلسطين، الأرض والإنسان والتاريخ والمستقبل. أقول ذلك رغم كل المرارات التي تصاحب ذكرى هذه السنة، إنها تحضر لتدفعنا إلى التفكير في المواقف والخيارات المناسبة للتحوّلات التي عرفتها القضية، ومختلف التحوّلات التي يعرفها العالم، ومن دون إغفال واقع الحال في المجتمعات العربية.. حيث لا حلول خارج دائرة مواصلة البحث في كيفية التخلّص من مختلف أعباء الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، الذي يُواصل تَماديه من أجل مزيدٍ من الاستيطان والعنف، ومزيدٍ من الغطرسة والعنصرية، وأتصوَّر أنه لا حلول للمأزق الراهن خارج دائرة الممكنات التي يحدّدها واقع الحال الفلسطيني في غزة وفي الضفة الغربية وقطاع غزة.

تَحُلّ ذكرى يوم الأرض والأحوال الفلسطينية تزداد سوءاً، تَصغر الأرض، تتقلَّص مساحتها، تُصدر إسرائيل القوانين الداعمة لجبروتها والحامية لمصالحها الاستعمارية التوسعية. يضيق الفلسطيني بمختلف صور الهوان التي مُورِست عليه فوق أرضه، يُحاصره الموت والسجن والخوف، كما تحاصره أموال الدَّعْم والمساندة العربية والأجنبية.. تحاصره رتابة وهم السلام الذي تدير دفّته إسرائيل، مزهوّة بكل ما حققته من اختراقات في مشرق الوطن العربي ومغربه.. يضيق الفلسطيني من أشكال التهميش التي لحقت القضية، كما يضيق من عجزه وعدم قدرته على تخطّي حالة الانقسام التي تعرفها نخبه وقواه الحية في الداخل وفي الشتات.. يضيق بنفق الحكم الذاتي، وشلل تنظيماته السياسية والمدنية.. تَحُلّ الذكرى وقد عرفت القضية في السنوات الأخيرة مجموعة من التحولات مَسَّت تاريخها وتنظيماتها، ومحيطها العربي، ودخلت في دروبٍ ومتاهاتٍ أبعدتها عن روح المشروع الوطني الفلسطيني التحرّري، ومشروع الدولة المستقلة..

تحمل مواصفات ذكرى يوم الأرض الاسم الذي يدفعنا إلى مزيد من المقاومة من أجل استعادة أرض فلسطين

تدعونا ذكرى يوم الأرض إلى ضبط مآلات الراهن الفلسطيني، في علاقته بمشروع التحرير وبناء الدولة الفلسطينية، فهذا أوان تبلور وعي فلسطيني جديد يُمَهِّد لإمكانية التحرّر والتحرير، خصوصا أن مشروع السلام الذي رسمت مبادئه اتفاقية أوسلو، أصبح اليوم مشروعاً محاصراً، فليكن عنوان الحراك القادم مواجهة قيود مشروع سلام مُحَاصَر، وذلك بموازاة حراكٍ يتوخّى مغالبة الاستعمار الاستيطاني والعنصري ومغالبته، الاستعمار الذي يواصل عدوانه بكثير من الثقة. وهناك سياقات تاريخية وسياسية عديدة تواكب مختلف التحوّلات التي يعرفها العالم منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، إضافة إلى المتغيرات التي يعرفها العالم العربي، والتي أفرزت أوضاعاً ساهمت في توسيع دوائر التطبيع والمطبّعين، الأمر الذي يستدعي بدوره ضرورة التفكير في أشكالٍ جديدة من المواجهة والمقاومة، لعل القضية تستعيد وهجها، وتساهم في رسم آفاق جديدة من الحراك القادر على مواجهة مختلف العِلَل والأعطاب السياسية والتاريخية التي لحقت القضية.

نتصوَّر أن الحراك المرتقب سيتجه إلى الوقوف ضد إكراهات وشروط تاريخ مُرَكَّب، تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية وفصائلها، تاريخ مشكلاتها وصعوباتها، تاريخ انقساماتها ووحدتها، أزمنة تأسيسها وبنائها المشروع الوطني الفلسطيني. ولا نتصوَّر أن الحراك الذي يمكن أن يواصل به المشروع الفلسطيني حضوره الفاعل في التاريخ يمكن أن يكون سهلاً، إضافة إلى أنه حراكٌ لا يُماثِل الانتفاضات وأفعال المقاومة التي ركَّبها الفلسطينيون في تاريخهم القريب والبعيد.. الحراك الجديد الذي نتطلّع إليه مَشدودٌ إلى الموازين السياسية والتاريخية المُؤطرة لأفقٍ جديد في الفعل التحرّري الفلسطيني، إنه حراكٌ يفكر في صور الخلل التي لحقت مختلف تنظيمات الحركة الوطنية الفلسطينية، مختلف صور شيخوختها وعجزها، تناقضاتها وانقساماتها وانخراطها في مشروع للسلام من دون سلام، إشكالات الحكم الذاتي في الضفة والقطاع، فلسطينيي السجون الإسرائيلية، سجناء ما تبقى من القرى والمدن الفلسطينية المُحاصرة، فلسطينيي الشتات، أجندات القوى الإقليمية والدولية الداعمة لإسرائيل .. فلا حراك اليوم من دون استيعاب مختلف المتغيرات التي تتحكّم في المشهد السياسي الفلسطيني، في علاقته بمختلف التحوّلات الجارية في العالم.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".