في أنّكَ لستَ هناك

في أنّكَ لستَ هناك

10 نوفمبر 2023
+ الخط -

السّماء فوقي صافيةٌ بعضَ الشيء، لا دُكنة فيها إلا قليلا، ألحَظُ نجمتيْن أو ثلاثا. النورُ الكثيرُ في المدينة يجعل العتمة أقلّ، ويُشعرني بفائضٍ من الأمان. والضوْءُ الغزيرُ في الشوارع الفسيحة يُجيز لي القول إن سواد الليل يصلُح لقرائح الشعراء عندما يقطفون منه القمر، وعندما يُؤثِرون النجوى وكلام النفس للنفس. لستُ هناك، إنّما هنا في صالون البيت، أرى شُواظا يمرُقُ في السّماء التي قدّامي على الشاشة، بل نارا أيضا فوق المدينة التي هناك. أعبُر بعينيَّ على مساحة الليل المُتاحة، وأُنصِت للمراسل يقول إن القصفَ الليلة غير مسبوق. قال هذا قبل ثلاث ليال، وقبل سبع، وقبل اثنتي عشرة ليلة، وقبل ما لم أعدَّها من ليالٍ كان يستجدّ فيها موتٌ بعد موت. أودّ لو أنصحُ الشابّ المجتهد، وفيَّ خوفٌ عليه، بأن يُغادر قصّة غير المسبوق هذه، فالقتلُ كثيرٌ أيضا في المسبوق أيضا. لستُ هناك لأدلّه على ما يلزم أن يقول. هو الذي يعرِف. أنا، وغيري، نعرف منه، ومن رفاقه المرابطين في شمال المدينة ووسطها وجنوبها، عن الميّتين الذين زاد عددهم في النهار وفي هذا المساء. أرى بيوتا انهدَمت، وتلالا من رُكامٍ وخرابٍ باهظيْن. أُحدّثُ نفسي، وأسأل: لو كنتُ هناك، ماذا تُراني أفعل؟ هل كنتُ سأحتمل عتمة الليل عندما تخدِِش سماءَه نيرانٌ حمراءُ وشظايا مشتعلة، وما لا أعرف؟ لو كنتُ هناك، هل كنتُ سأحدّقُ في عينيْن، نائمتيْن أو مفتوحتيْن، لطفلٍ، في السادسة مثلا، أسقَطَ قصفٌ مباغتٌ دار أهلِه تحتَه؟ ربما نجَت أمُّه، أو فتَك بها الصاروخ، فتوزّعت أشلاء، كما أختٌ له أو ابنة عمّ أو جدٌّ أو خالٌ ربما. لو كنتُ هناك، وبقدرةِ قادرٍ لم أمُت، كيف كنتُ سأعيش مع الموت الكثير حواليّ، هل كنتُ أستطيع نشيجا لا أستطيعُه هنا؟

لا تُقيم في ذاكرتي حربٌ. وإنْ تعلَقُ فيها أطيافٌ عارضةٌ لمشاهد في أثناء حربٍ طرَأت أياما ثم راحت. لم أشاهد فيها موتى ولا جرحى، هي فقط أصواتُ رصاصٍ بعيدة، ورمياتُ قذائف أبعد، مع خوفٍ لا أتذكّره كان شديدا. لم أشهَد في حياتي، وأنا الذي أتقدّم إلى العقد السادس، صاروخا يضرِب أيّ مطرح، أو دبّابةً ترمي حيثُ شاءت. شاهدتُ حروبا بلا عددٍ على شاشات التلفزيون، بعضٌ من بعضها على الهواء مباشرة. وشاهدتُ حروبا مريرةً في أفلام سينما. إذن، أحتاج خبرةً خاصّةً لأعرف جيّدا كيف هي الحروبُ بالضبط، كيف يعدّ الناس في أثنائها الأيام إذا طالت. ولكن، مهلا، من قال إن التي هناك حربٌ؟ لا تُخبرني المعارفُ التي أعرف، ولا الحروبُ التي مرّت على شاشة ذاكرتي من شاشاتٍ عن وقائع صارت أو صنعتْها مخيّلاتٌ، إن الذي هناك حربٌ. لا، إنه فتكٌ بالعُزّل وحسْب، استأنسَ بالنازيّ والفاشيّ وحواشيهما، فتكٌ بالأطفال والرّضّع والأجنّة والنساء والصبايا والشيوخ والشبّان، الآمنين إلا من شهوة القتل لدى العدوّ الغادر الجبان الذي ينقتل جنودٌ وضبّاطٌ منه كثيرون، ويؤسَرون، في اشتباكاتٍ وكمائن، وفي مناجزاتٍ عن حقٍّ وحقيق، فيُؤثر أن يتحصّن في الطائرات والدبّابات، ليُزاول صنْعته إيّاها، التمويت الذي لا اسم له سوى هذا. ويرتكب القاتلون تجويعا وتعطيشا وحصارا، ويُنزلِون العقوبات بالجرحى، لأنهم آثروا أن يصيروا جرحى فلم يموتوا. ولهذا، تُرمى المستشفيات بالقنابل، وتُحرَم من الوقود. ... قد تُرتَكب في الحروب جرائم، لكنها أوّلا حروب. أما هذه فمحضُ جرائم، لا يردَع مقترفيها أقربون ولا أبعدون، جوارٌ أو غير جوار.

لو كنتُ هناك، لن تكون لشاشة التلفزيون مدعاة. قد أغبِط الذين ينعُمون بكهرباء ودواء، ويزاولون النوْم والصحو في مواعيدهما، قد أغارُ من الذين يُفطرون ويتغدّون ويتعشّون، وممن يؤدّون واجب الدعاء للمظلومين وضد الظالمين، قبل أن يطمئنوا إلى أنّ أولادَهم هيأوا واجباتهم المدرسية ثم انصرفوا إلى أسرّتهم. لو كنتُ هناك، ربما ألوذُ بحائطٍ في مستشفى لم ينقصِف بعد، أو أغفو على فرشةٍ في ساحةٍ خلاء، قبل أن أوصي من أوصيهم بأن يُحرزوا ما في وُسعهم من حذَر، وقبل أن أتسقّط أخبارا عن كنائس ومساجد ومدارس استهدفها المجرمون فارتجّت.

لستُ هناك، وما أيسر من أن تَكتُبَ عن حربٍ بعيدة، أو عن تمويتٍ (التصحيحُ أعلاه)، بعيد. تراها من هنا، بين وقتٍ وقت، وأنت تعملُ لو شئت، وأنتَ تأكًل، وأنت تتمطّى وتتثاءب. يحاولون هناك أن يمكُثوا في الحياة التي أرادتها الأقدار لهم تعيسة، ولا شيء يريدُه الأطفالُ سوى أن يكبُروا. بودّي، هنا، لو أسأل الوحش: كم يلزمُكَ من موتٍ في الذين هناك قبل أن يُصيبك الضجر؟ هل من قتلٍ أقصى تُريد الوصول إليه، ولا تُريد أن تُخْبر عنه أحدا؟

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.