عن الأضحية والالتباس

عن الأضحية والالتباس

12 اغسطس 2021

(محمد بوزرجي)

+ الخط -

يُنظر إلى الالتباس في عصرنا هذا نظرةً سلبية يشوبها التوجّس والقلق، وتنزع هذه النظرة إلى معالجة الالتباس بتحريره إلى الحسم والإجابة الواحدة، أو "الحقيقة الواحدة"، في محاولةٍ منها لمواجهة هذا الالتباس وكأنه تهديد. تشير عالمة النفس الأميركية (من أصول ألمانية)، إيلزه فرنكيل برونشفيك، في كتابٍ لها صدر في الأربعينيات من القرن الماضي، في الولايات المتحدة، بالشراكة مع آخرين، منهم ثيودور أدورنو، بعنوان "الشخصية المتسلّطة"، إلى أن التسامح مع الالتباس هو قبول بالتعدّد واحتفاء به، مؤكدة أنّ الأشخاص الذين لا يعترفون بتقلباتهم العاطفية أمام هذا الالتباس يتصفون بنوع من اللاتسامح مع الالتباس على المستوى المعرفي، ويميلون إلى منطق الأبيض والأسود، منتهين إلى أحكامٍ سريعةٍ ونهائية. وغالباً، وهو الأهم، متعامية عن الواقع وتفاصيله، وتصنيف "الآخر"، قبولاً أو رفضاً بشكل متخلّص من الالتباس. لتربط برونشفيك، في النهاية، بين العنصرية وعدم التسامح مع الالتباس، ربطاً عضوياً. أما عالم الاجتماع الألماني، دونالد ليفين، في كتابه "الهروب من الالتباس"، فيؤكد أن الخوف من الالتباس إنما هو دافع أساسي في بنية الدوغمائية الدينية. ويؤكد أيضاً أن الالتباس لعب دوراً مركزياً في الثقافات التقليدية، وكانت له وظائف أساسية في مجتمعاتها، أهمها أن التسامح مع الالتباس كان له دور أساسي في بناء شكلٍ من أشكال التضامن الاجتماعي.

في كتابه "ثقافة الالتباس.. تاريخ آخر للإسلام"، يقدّم المستعرب الألماني، توماس باور، قراءة لتاريخ المجتمعات الإسلامية من خلال مدخل ثقافي يتأسّس على فكرة التسامح مع الالتباس. حيث تقوم ثقافة الالتباس على تعدّد المعاني والمراجع والحقائق، والأهم تعايشها، بشكلٍ لا يسمح لأحد بادّعاء الحق لنفسه ووصم الآخرين بالباطل، بل إنها تقبل تجاور معايير متناقضة في الآن نفسه. بنى باور دراسته تلك على كتاباتٍ عربيةٍ كلاسيكية، مستنتجاً أن الثقافة الإسلامية كانت مفتوحة وقابلة للتعدّد والتنوع والالتباس، ولم تكن ثقافةً أحادية المعنى والدلالة، خطيّة الحقيقة. لم لا وقد كان علماء الإسلام القدماء يرون في التعدّد الذي يشتغل حتى داخل النص المقدّس المؤسس لتلك الثقافة دليل رحمة وإعجاز، وكذلك مركزية الاجتهاد في القضاء والتشريع.

كان قبول الالتباس هو الفضيلة التي ميّزت الثقافة الإسلامية عن نظيرتها اليونانية، وكذلك عن الثقافة الغربية الحديثة

كان قبول الالتباس هو الفضيلة التي ميّزت الثقافة الإسلامية عن نظيرتها اليونانية، كما يرى باور، وكذلك عن الثقافة الغربية الحديثة، وبالذات في عصر التنوير الذي قضى باسم العقل والحداثة على كل تعدّد وكل التباس. ويخبرنا دونالد ليفين أن "الحرب على الالتباس" ومعاداة التعدد والتنوع، كانت سمةً أساسيةً ميزت الثقافة الغربية منذ القرن السابع عشر. في حين أن ثقافة الالتباس ونتاجها التعدّد والتنوع ازدهرت داخل الثقافة الإسلامية منذ القرن السابع حتى التاسع عشر، وفي أسوأ الأحوال وهي نادرة، كبح جماحها لأغراض سياسية، إلا أن موجات الاستعمار والتحديث باسم الدولة الوطنية ما بعد الاستعمارية، وكذلك الدراسات الاستشراقية والتماهي معها عربياً وإسلامياً، واستبطانها، ذلك كله أتى على ثقافة الالتباس.

يظلّ لنا أن نشير، بعد هذا المدخل، إلى أهمية التساؤل عن العوامل الداخلية التي أتت على ثقافةٍ تقبل في أساسها الالتباس والتنوّع والتعدّد، وتزكيه في بنيتها التشريعية، باسم الاجتهاد، ولا تفرض حقيقة واحدة، أمام المشروع الغربي للحقيقة الواحدة. ألم يكن الاستبداد والدوغمائية والتحجّر الديني، ومحاصرة الاجتهاد والاختلاف والالتباس، وقتل المختلف وتكفيره هي تلك العوامل التي أدّت إلى ما أسماه مالك بن نبي "القابلية للاستعمار"، وقال عبد الكبير الخطيبي عنه "الهزيمة تأتي من الداخل دوماً"؟

يُستدعى هذا كله في تأمل حادثة في الأردن في فترة عيد الأضحى، إذ نُسب إلى الأكاديمية الأردنية وفاء الخضرا، العضو (المستقيلة) في لجنة تحديث المنظومة السياسية في الأردن، تعليقٌ بشأن ممارسات الأضحية، جاء فيه أن الإسلام بريء من كل هذا العنف وتلك الدموية. وسرعان ما بدأت حملة استهدافٍ طاولت شخص الخضرا ومنصبها، والأهم قناعاتها، وبدأت حملات التفتيش في سريرتها.

ثقافة الالتباس ونتاجها التعدّد والتنوع ازدهرت داخل الثقافة الإسلامية منذ القرن السابع حتى التاسع عشر

كان لازماً على الكاتب قبل كتابة هذه المادة رصد تداعيات هذا الأمر، المستمرة، قناعةً منه بأنّ الأمر أكبر من مجرّد رأي على "فيسبوك" لم يلقَ قبولاً مجتمعياً، وبالذات أنّ الأمور وصلت إلى حد التضييق على من يتجرّأ على الدفاع عن الخضرا شخصاً أو فكرة، بعد التنادي إلى ما سميت "دعوى إثبات الردة" ضد الخضرا.

ما حدث مع الخضرا يدفع إلى التساؤل عن المشترك الإسلامي الثقافي كفضاء عام، ينبني على المساواة "فكلكم لآدم وكلكم من تراب". هل بات محارباً للتعدد لهذه الدرجة؟ صحيحٌ أنه ما من جديد في القول إن الأديان، في أغلبها الأعم، بما هي منظومات ضبط ورقابة، تتضمّن أشكالاً متعدّدة من السياسات الجسدية، على مستوى المعنى والرمز والمادة، كالصوم والتضحية والحجاب والطهور وغيرها. وفي الحالة الإسلامية، كان ثمّة لحظة في المخيال الجمعي الإسلامي، نستدعيها هنا لضرورات السياق، قاطعت بين كل تلك السياسات الجسدية، فكانت بؤرة تخيلية عن الجسد المسلم، المطيع أوامر الله، والبالغ ذروة الطاعة بالنبوة، عن سؤال الجسد وقيمته المادية الوجودية (الحياة والموت، أو الوجود البدني والعدم) وسؤال قيمته الرمزية (الثواب والعقاب) وأخيراً سؤال القيمة الضبطية (الطاعة والمعصية)، ذلك كله على مستوى الرمز والفعل والفاعلية، وهي لحظة أن أمر الله نبيه إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل والتضحية به. إلا أنه حتى هذا العبد المطيع ربه انتابه التباسٌ ما تجاه الأمر الإلهي، دفعه إلى سؤال ابنه، وهو موضوعة الالتباس نفسها، أو بؤرتها المادية والرمزية، حيث الجسد المذبوح/ المضحّى به هو ابن من صلب هذا النبي، وهو أيضاً امتحان لقيمة الأبوّة في مواجهة الألوهة، وأخيراً امتحان لمفهوم الطاعة بالتضحية الجسدية (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ). الالتباس هنا لم ينجُ منه النبي، فما بالكم ببقية البشر، بل إن الله أثاب نبيه، بعد أن امتحن التباسه. صحيحٌ أننا لا ندافع هنا عن مشهد الذبح، ولا نزكّيه، إنما نحفر في قيمة الالتباس داخل المتخيل الثقافي المرتبط بالأضحية، وليس فكرة الأضحية بذاتها.

الثقافة الإسلامية باتت متماهيةً من المنتج الأساسي في الحداثة، وهو الدولة من حيث قدرتها الضبطية على الجسد وسياساته

لا يختلف التباس وفاء الخضرا هنا عن التباس النبي في حينه، فهما ينطلقان من لحم الجسد الحيّ، وقيمة الحياة. إلا أنهما يختلفان في أن التباس الخضرا حدث داخل جسد دولةٍ لم تكن موجودة في عصر النبي، والدولة عدو الالتباس، فهي تقوم على عناصر محدّدة لا لبس فيها، كما تقدّم الدولة الحديثة نفسها: (إقليم جماعة وهوية مشتركة).

الثقافة الإسلامية باتت متماهيةً مع المنتج الأساسي في الحداثة، وهو الدولة من حيث قدرتها الضبطية على الجسد وسياساته، ولا نعني الجسد بالمعنى المادي المباشر فقط، إنما برمزيته ومضامينه السياسية والإجرائية والاجتماعية أيضاً، فلجسد الخضرا مواطنيته المنتمية إلى دولة أغلبها مسلمون، وهو أيضاً جسد مؤنّث، لا يحق له الفصل في أمر ديني أمام فحول الدين من الذكور، وهي أيضاً عضو لجنة إصلاح سياسي، في دولةٍ تشوبها مشكلات اجتماعية وسياسية واقتصادية وحقوقية جمّة، والأصل في ذلك كله الالتباس والتعدّد والتنوع، وهو ما يهدّد كل تلك المنظومات: الدولة، الدين، النوع الاجتماعي، الطبقة الاقتصادية، الحقوق المدنية.

ما حدث مع الخضرا، والتنادي إلى محاكمتها وفصلها من مناصبها الأكاديمية والسياسية، بل ومهاجمة أي شخصٍ دافع عنها، أو أي محام أو محامية تطوع للدفاع عنها قانونياً، إنما يكشف، من ضمن ما يكشف، عن أزمة في الفضاء العام القانوني والتشريعي والسياسي والحقوقي والاجتماعي، والأهم الفضاء العام اليومي، وفرض نمط على مؤسساتٍ يُفترض بها أن تحمي المواطنة على تعدّدها وتنوعها المجتمعي.

B46E8965-E2BD-4AC0-840E-AD5D19B54495
عبدالله البياري

باحث وأكاديمي جامعي فلسطيني، متخصص في النقد الأدبي والدراسات الثقافية، وله مقالات وبحوث منشورة في صحف ومواقع ومجلات عربية.