عندما زُلزلت أرض المغرب وأخرجت المكبوت مع فرنسا

عندما زُلزلت أرض المغرب وأخرجت المكبوت التاريخي‮ ‬مع فرنسا

19 سبتمبر 2023
+ الخط -

عادت‮ ‬السردية‮ ‬التاريخية إلى مرافقة العلاقة بين المغرب وفرنسا، بالقرب من أنقاض الزلزال الذي‮ ‬ضرب إقليم الحوز‮. ‬وتبيّن أنّ تحليلها على ضوء التفاعلات الجيوسياسية‮ ‬سيكون ناقصا إذا لم‮ ‬يستحضر المكبوت التاريخي،‮ ‬والذي‮ ‬كان من بين المضمرات‮ ‬والبَواطن التي‮ ‬حفرتها الهزّات الزلزالية التي‮ ‬ضربت منطقة الحوز‮ (‬وسط‮) ‬ليلة ‮8 سبتمبر/ أيلول الجاري‮.‬
بدأ كل شيء‮ عندما‮ ‬توجه الرئيس الفرنسي‮ إلى "تويتر‮/ إكس" غداة الزلزال‮، ‬معلنا عن استعداد فرنسا‮ ‬الفوري‮ ‬للتدخّل إنسانيا في‮ ‬الكارثة،‮ ‬ثم حديثه عن‮ "أهبة‮" ‬المستعمِر السابق للتدخّل "‬في‮ ‬الثانية ذاتها‮" ‬للمحاولة‮. ‬واتّضح أن الاختلاف بينه وبين رؤساء دول،‮ ‬من قبيل الرئيسين الصيني‮ ‬والأميركي،‮ ‬يقف عند الأسلوب‮ ‬والوسيلة‮، حيث اعتمد‮ ‬غيرُه الرسائل الدبلوماسية‮ ‬والتعازي‮ ‬المتعارف عليها دوليا أو فيديوهات لحظية،‮ ‬مقابل سلوكه في "تويتر"‮ ‬الذي‮ ‬تعدّ رسائله‮ ‬غير ذات عنوان محدّد‮. ‬
اختار‮، في المرّة الثانية، ‬السمعي‮ ‬البصري‮ ‬للتعبير عن موقفه،‮ ‬عبْر فيديو‮ ‬قدَّم فيه دعمه للشعب المغربي،‮ ‬مباشرة، ثم دعمه‮ ‬لمزدوجي‮ ‬الجنسية، مغاربة وفرنسيين،‮ ‬متحدّثا عن مضمون هذه المساعدات بالقول: "قمنا بما‮ ‬يجب. وفي‮ ‬الثانية نكون جاهزين للتدخّل‮"‬،‮ ‬مكتفيا بالحديث عن‮ "‬السلطات‮" ‬المغربية في‮ ‬دور تنسيق المجهودات‮.
وفي‮ ‬غياب ردّ مغربي،‮ ‬تحكّمت فيه اعتبارات العمل الميداني‮ ‬والإنقاذ في‮ ‬عين المكان باستعجالية،‮ ‬سارعت وسائل الإعلام إلى مهاجمة‮ ‬النظام ‬والعاهل المغربيين‮ ‬مباشرة،‮ ‬وانطلقت حملة‮،‮ ‬استعملت فيها كل الأجناس الصحافية،‮ ‬من الريبورتاج إلى‮ ‬الكاريكاتير، مرورا بالبرامج الحوارية، رأى‮ ‬فيها الرأي‮ ‬العام المغربي‮ هدفين:‬ تقديم الصمت المغربي،‮ ‬باعتباره لامبالاة رسمية إزاء الوفيات،‮ ‬ورفض المساعدات الفرنسية‮، مرادفا للتخلّي‮ ‬عن الضحايا تحت رحمة الزلزال،‮ ‬بل ذهبت‮ ‬يومية ليبراسيون إلى حد تصدير‮ عددها لليوم التالي بصورة لسيدة مكلومة بعنوان مستفزّ‮ "‬أنقدونا نحن نموت بصمت‮"‬،‮ ‬وهو الأمر الذي‮ ‬بدا جارحا ومستفزّا، بل وَمدبَّرا قبل المعرفة‮ ‬الدقيقة بمجريات الفاجعة، وترصيد بنك المعلومات الخاص بها‮. ‬وفي‮ ‬بند الهجوم المشخصن على ملك البلاد، أصدرت اليومية نفسها كاريكاتير للعاهل المغربي‮ ‬فوق عرش ضرب الزلزال الأرض التي‮ ‬يقوم عليها‮! ‬وعزّزت‮ أسبوعية‮ شارلي‮ ‬إيبدو‮ ‬التي‮ ‬سبق أن تضامن معها المغاربة بشكل واسع‮ ‬عند الهجوم الإرهابي‮ ‬عليها ‬هذا المنحى المستفز بـ"صورة كاريكاتيرية‮" ‬تهاجم محمد السادس شخصيا‮، وترسم‮ ‬كتلة من الدولارات فوق الضحايا وأجسادهم الدامية‮.‬ الهدف الثاني‮ ‬المضمر‮ ‬هو في‮ ‬تقديم فرنسا الإنسانية المستعدة‮ ‬دوما والأكثر حرصا على الشعب المغربي،‮ من دون تجاوب السلطات المغربية‮،‮ ‬وَعاهُ‮ ‬المغاربة باعتباره‮ "‬تأليبًا‮" ‬ضد النظام،‮ ‬في‮ ‬محاولة تقديمه نظاما‮ ‬يسعى إلى توطيد سيادته في‮ ‬معالجة آثار فاجعة الزلزال على حساب الضحايا‮، ‬وتبرير سلوك فرنسا‮ ‬بأنها ليست في‮ ‬حاجة ماسّة إلى السلطات،‮ ‬العاجزة واللامبالية‮!‬

المضمون السياسي‮ ‬الكاشف عن المنهج المتأزّم بين البلدين هو الذي‮ ‬يتحكّم في‮ ‬السلوك الفرنسي

وقد بات واضحا لدى النخبة والشعب في‮ ‬المغرب‮ ‬أن المضمون السياسي‮ ‬الكاشف عن المنهج المتأزّم بين البلدين هو الذي‮ ‬يتحكّم في‮ ‬السلوك الفرنسي‮. ‬وهو ما جعل الرأي‮ ‬العام المغربي‮ ‬يرى في‮ سلوك‮ ‬الرئيس وطاقمه، ‬بقايا نزوعات استعلائية، وميلا استعماريا في‮ ‬العلاقة مع المغرب‮، فكان أن سارعت المنابر المغربية وأصوات سياسية كثيرة، بما في‮ ‬ذلك داخل أوساط المعارضة، إلى اعتبار الركوب‮ ‬الفرنسي‮ ‬على الزلزال،‮ ‬في‮ ‬هذه المرحلة من العلاقة‮، إلى ‬موقفٍ‮ ‬غير متّزن‮ ‬ومحكومٍ بخلفيات‮ ‬غير سليمة‮‬،‮ ‬بتحميل المغرب الخجل الأخلاقي‮ ‬إزاء‮ مواطنيه الضحايا،‮ ‬قبل أنْ‮ ‬يطلع نهار الفاجعة،‮ ‬ثم أن "الخرجات" المتسارعة للرئيس الفرنسي‮ جرى تأويلها عن حقّ‮ (‬كما ستبين التطوّرات) أنها محاولة التصرف مباشرة، قبل ان‮ ‬يحدّد المغرب حاجياته،‮ ‬بدون تردّد من السلطة المغربية‮! ‬وهو ما أعاد إلى الأذهان ظرفية‮ "‬التدخل باسم الإنسانية‮" ‬التي‮ ‬برعت فيها فرنسا،‮ ‬في‮ ‬حالات عديدة، سواء في‮ ‬كوسوفو أيام بيرنار كوشنير، أو كما حدث في‮ ‬أزمة البيافرا في‮ ‬زائير ‬أو هايتي‮ ‬وزلزال‮ 2021 ‬الذي‮ ‬كان من نتيجته سحب السيادة من الدولة باسم أخلاق الاستعجال الإنساني،‮ ‬لتقديم المساعدات‮. ‬وفي‮ ‬السياق نفسه، عادت إلى الأذهان ديبلوماسية فرنسا،‮ ‬التي‮ ‬جعلتها البلد الوحيد الذي‮ ‬عيَّن لنفسه‮ "كاتب‮ ‬دولة للعمل الإنساني‮" ‬في‮ ‬1988‮. ‬والحال أن عديدين من أصحاب‮ ‬الرأي‮ ‬الفرنسي‮ ‬أنفسهم‮ ‬اعتبروه مجرّد‮ "‬حقّ في‮ ‬انتهاك السيادة الوطنية‮"‬،‮ ‬باسم‮ "‬عدم السماح بالحق في‮ ‬اللامبالاة‮"!‬ وزاد الطينة بلة، في‮ ‬العلاقة بين باريس والرباط‮، الخطاب الذي‮ ‬اختار إيمانويل ماكرون التوجّه به‮ "مباشرة إلى المغاربة‮"، ‬نساء ورجالا، بخصوص المساعدات‮ ‬وشرحها لهم بدون المرور بالقنوات الرسمية‮، ‬وهي‮ ‬سابقة في‮ ‬العلاقات الديبلوماسية بين البلدان، وحجر كبير تم رميه في‮ ‬البرهة التاريخية بين الأمتين‮. وكان أن نشطت دورة التاريخ الأليم المشترك،‮ ‬وترتّب عنه اللجوء إلى تحليل العلاقات في‮ ‬ديمومتها عبر مخيال الدولة المغربية الحديثة‮، ‬فاعتبرت الأقلام التي‮ ‬كتبت في‮ ‬الموضوع أن الرئيس الفرنسي،‮ ‬الذي‮ ‬يعيب على دول الجنوب العمل بالذاكرة‮ ‬الأليمة‮‬،‮ ‬يشتغل بآلياتها‮ ‬الاستعمارية عندما تكون في‮ ‬صالحه‮، ‬من خلال تجربة المغرب الذاتية في‮ ‬علاقة إدارة الدولة الفرنسية مع شعبه وعاهله‮‬،‮ ‬وهي‮ ‬تجربة‮ ‬يغار المغاربة عليها‮ ‬ويخلدونها في‮ ‬ذاكرتهم ‬الجمعية عبر الثورة المشتركة للملك والشعب ضد الاستعمار الفرنسي‮.‬ ‮‬بالرغم من أن المغاربة‮ ‬يعيشون بنوع من السلمية تاريخ الصدمة الاستعمارية،‮ ‬يتجاوزونها،‮ ‬ضمن فهم واسع للنهوض التاريخي‮ ‬والخروج من صدمة الآخر،‮ ‬إلا أن السلوك المتعالي‮ ‬لماكرون وفريقه‮ ‬أنعش الذاكرة بقوة‮.‬

يعد‮ ‬تبخيس‮ ‬العلاقة بين الملك والشعب في‮ ‬علاقة‮ "‬طوطمية‮" ‬عجزا فظيعا في الفهم الفرنسي

وفي‮ ‬شبكة القراءة التي‮ ‬استرجعوها من الذاكرة،‮ ‬بدت محاولة الرئيس التوجّه إلى المغاربة مباشرة إعادة متأخّرة لمحاولات فرنسا إبّان الاستعمار عندما أرادت حل معضلة الاستقلال المغربي‮ ‬بعيدا عن عاهله، والتعامل مباشرة مع القوى المجتمعية‮ (‬بما فيها الوطنيون والمستقلون وبعض أتباعها من الإدارة الترابية وأتباع الزوايا‮) ‬مقابل التخلي‮ ‬عن العرش ومالكه محمد الخامس وقتها‮،‮ ‬بعدما كانت قد نفته إلى كورسيكا،‮ ‬وتسبّب ذلك في‮ ‬تصاعد المقاومة الشعبية المسلحة والمدنية والسياسية‮.‬
‮ومن فقرات ذلك ‬ما ذكره أحد القادة الوطنيين،‮ ‬الفقيد امحمد بوستة زعيم حزب الاستقلال‮‮ ‬الذي حضر المفاوضات بين وفد الوطنيين المغاربة‮ ورئيس الحكومة الفرنسية وقتها إدغار فور،‮ ‬والذي‮ ‬جوبه بالرفض من المفاوضين بقيادة الراحل‮ ‬عبد الرحيم بوعبيد‮ ‬أحد الموقّعين على وثيقة الاستقلال وعضو وفد المشاورات حول الاستقلال‮، فقال‮ ‬فور‮ ‬قولته "لم أكن أعرف أنكم في‮ ‬شمال أفريقيا أيضا تعبدون الطوطم‮"، ‬ذلك المجسّد الإلهي‮ ‬الذي‮ ‬ينحته الأفارقة من خشب‮ ‬أو حجر‮!‬
و‮يعد‮ ‬تبخيس‮ ‬العلاقة بين الملك والشعب في‮ ‬علاقة‮ "‬طوطمية‮" ‬عجزا فظيعا في الفهم الفرنسي،‮ ‬بالرغم من المرافقة‮ ‬الفرنسية التاريخية‮،‮ ‬سلبا حينا وإيجابا حينا آخر‮‬،‮ ‬لتطور أوضاع المغرب ما بعد الاستقلال‮. ‬واعتبر كثيرون أن في‮ ‬الموقف الحالي‮ ‬لماكرون ما‮ ‬يذكّر بهذه النزعة،‮ ‬من خلال حاجة فرنسا لمهاجمة الملك،‮ ‬لكي‮ ‬يتم لها دخول حلبة القرار المغربي‮.‬

الاستعلائية الفرنسية تزاوجت مع نوع من الخفّة المذنبة‮ ‬من الرئيس ماكرون وديبلوماسيّته

وإذا كان هذا التأطير التاريخي‮ ‬حاضرا،‮ ‬ضمنا أو صراحةً، في‮ ‬تدقيق التشخيص للشروخ التي‮ ‬عمّقها الزلزال بين البلدين،‮ ‬فإن‮ الاستعلائية الفرنسية تزاوجت مع نوع من الخفّة المذنبة‮ ‬من الرئيس ماكرون وديبلوماسيّته‮.‬ وهو ما قد‮ ‬يدفع المتتبعين إلى اعتباره خطا ديبلوماسيا‮ ‬يعيد إلى الأذهان‮ ‬سلوكات تراكمت من ماكرون وفريقه،‮ ‬في‮ ‬إدارة علاقة مركبة مع المغرب‮‬،‮ ‬منها الطريقة التي‮ ‬كان قد أعلن فيها‮ زيارته إلى المغرب في‮ ‬أكتوبر/ تشرين الأول الماضي،‮ ‬وهو‮ ‬يغادر قاعة للرقص‮!
ليست العلاقات المقطوعة بين ملك المغرب ورئيس فرنسا‮ سرّا،‮ ‬ولكنها لم تجعل الملك‮ ‬يقطع علاقته مع فرنسا التي‮ ‬كان‮ ‬يزورها زيارة خاصة، عندما وقع الزلزال‮‬،‮ ‬فقطع زيارته للعودة فورا إلى بلاده‮! ‬ولعل الفصل الأخير في‮ إدارة ‬رمزيات فرنسية إعلان وزيرة الخارجية‮ ‬عن زيارة مرتقبة للرئيس ماكرون إلى المغرب،‮ ‬في‮ ‬حوار تلفزيوني،‮ ‬يبدو أنه كان تحت الطلب،‮ ‬وهو السلوك الذي‮ ‬ردّ عليه المغرب بالصرامة نفسها،‮ ‬باعتباره خرَقَ‮ ‬الأعراف الديبلوماسية في‮ ‬التشاور عند كل حدث بارز، وفنَّد وجود أجندة لهذه الزيارة أو برمجة لها‮. ‬ولا‮ ‬يخفى على المتّتبعين وأصحاب القرار أن وصول العلاقات إلى هذا الحد من التذكير بأبجديات الديبلوماسية بحد ذاته أمرٌ‮ ‬غير مسبوق،‮ ‬وإذا كان المغرب قد أدار أزمات من القوة بمكان مع عواصم أوروبية أخرى، كان المطلب الرئيس فيها ‬الوضوح في‮ ‬التعامل معه في‮ ‬شؤونه السيادية‮‬،‮ ‬فإن للتاريخ هنا ما للهزّات الارتدادية‮ ‬من التأثير الذي‮ ‬يعقب الزلزال‮!‬

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.