شجاعة لجَين وحسابات الإدارة الأميركية

شجاعة لجَين وحسابات الإدارة الأميركية

14 فبراير 2021
+ الخط -

نفرح لحرية لجين الهذلول ونوف عبد العزيز، ونتمنى ألّا يبقى سجين رأي أو سياسي واحد في العالم العربي. لكن ظروف إطلاق سراح الناشطتين السعوديتين في بلدهما تُذَكرنا بأنه لولا تدخل إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، لبقيتا معتقلتين. وبالتالي، لا بد من ضغط أميركي "حقيقي" على الحكومات العربية، لتعترف بحقوقنا، نحن الشعوب، في الكلام والتعبير والعمل السياسي، وهو ما لا تبادر إليه الولايات المتحدة إلا لماماً، وفي خدمة السياسة الأميركية. ويُشار هنا إلى هذا الأمر من دون الاستهانة بشجاعة لجين أو نوف، أو بعدالة النضال من أجل حقوق المواطنة والمساواة.

الطرف الآخر للمعادلة أنّ كبح الحريات وملء السجون بأرواح يتحكم فيها الحكام، في الدول العربية، يعود، أحياناً، إلى المعارضة الشعبية لتبعية الحكومات، وتنفيذها سياسات أميركية تتطلب تكميم الأفواه وتعذيب الأجساد. فدفاع الولايات المتحدة عن معتقل أمرٌ يخضع لحساباتٍ سياسيةٍ لا دخل لها بالدفاع عن حقوق الإنسان، فسواء كانت الدولة المعنية مؤيدة لأميركا أو مناوئة لها، وسواء اعتبرت واشنطن النظام حليفاً أو عدواً، فالسياسة تحكم موقفها. وفي معظم الأحيان، تستعمل انتهاكات حقوق الإنسان ورقة ضغط لإضعاف نظام أو ابتزازه لتبني سياساتٍ لا علاقة لها بالحقوق أو العدالة، بل خدمة لأهداف واشنطن الآنية أو الاستراتيجية.

في العالم العربي وغيره، دول حليفة لأميركا وأخرى معادية لها، تبدع في الانتهاكات وفنون الاعتقال والتعذيب والإخفاء القصير أو الطويل سنوات أو إلى الأبد

لا يمكننا تبرير بطش الأنظمة بموقف أميركا أو تدخلها، لكن تاريخ الانقلابات العسكرية، وغير العسكرية، حافل بتصنيع ديكتاتورياتٍ دمويةٍ في أرجاء المعمورة، وإن كان للأميركيتين، الوسطى والجنوبية، النصيب الأكبر من سلسلة الانقلابات الموجهة والمنفذة من وكالة المخابرات الأميركية. وقد اعتذرت الولايات المتحدة، بعد مرور عقود، عن أدوار لها في بعض الانقلابات، ولم تعتذر عن كلها، ودائماً وفقاً للتغيير في المصالح الأميركية، ولكنها لم تقدم تعويضاً لأيٍّ من ضحاياها.

وفي العالم العربي وغيره، دول حليفة لأميركا وأخرى معادية لها، تبدع في الانتهاكات وفنون الاعتقال والتعذيب والإخفاء القصير أو الطويل سنوات أو إلى الأبد، يعود المعارض جثة مشوهة أو لا يعود. وذلك تحت شعارات مختلفة ومتناقضة، من قبيل مقاومة أميركا وإسرائيل مثلاً. قد يختلف الموقف السياسي بين دولة وأخرى، وهذا مهم، لكن الأهم أنهما قد تتساويان في احتقار النفس الإنسانية أو تتنافسان فيه.

في حالتي الناشطة لجين الهذلول التي أمضت نحو خمس سنوات في السجن، وذكرت تقارير أنها تعرضت في الأثناء لتعذيب، بدأت تتحدّث عن تفاصيله الأليمة بنفسها وقد أصبحت طليقة، والمدوّنة نوف عبد العزيز، التي يلقبها حراكيون سعوديون بالمدافعة عن المظلومين، سيكون لها ما ترويه، وفقاً لوضعها، في حالتيهما، كما بشأن معظم زملائهما وزميلاتهما في الاعتقال، كان الموقف الأميركي إما صمتاً أو تواطؤاً، كما في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، الأمر الذي انتهى بتدخل أدى إلى الإفراج عنهما، وقد يؤدي إلى إطلاق معتقلين آخرين، وذلك اتساقاً مع قرار الإدارة الأميركية الجديدة إرساء قواعد أكثر صرامةً مع من كانوا أصدقاء ترامب وحلفاءه المقرّبين في المنطقة، أي إن ظروف استمرار اعتقال لجين ونوف، ثم إطلاق سراحهما، خضعت لحساسيات وصراعات سياسية، ترتب عنها صمت أميركي أو اعتراض أميركي، فالتوجه إلى إدارة بايدن والحزب الديمقراطي يفرض على حلفاء الولايات المتحدة الذين كانوا أقرب إلى إدارة ترامب تحسين وضع حقوق الإنسان، كجزء من رؤية بايدن لتحسين صورة أميركا التي اهتزت أمام حلفائها، نتيجة تهور التوجه اليميني المتشدّد لترامب وفجاجته، لكنها أيضاً تخدم أوجه كبح جماح هؤلاء في تعاملهم مع الحلفاء التقليديين من الأنظمة العربية في المنطقة.

قضية حقوق الإنسان محقة، ولكن الولايات المتحدة ترى أن في وسعها أن تستثمرها في تعميق العلاقات الخليجية الإسرائيلية

ليس للجين ونوف علاقة بهذه الأجندات. طالبت لجين بحقوق مدنية، وبوقف منع النساء في السعودية من قيادة السيارة. صحيح أن صاحب القرار في المملكة أطلق "انفتاحاً" غير مسبوق، كما من تمثيلاته الاعتراف بقانونية قيادة المرأة، ولكن التغيير يبدو أنه يجب أن يأتي من فوق، تأكيداً لسلطة الدولة، فبدا أن "جريمة" لجين هي تحدّي أصحاب السلطة، فليس مسموحاً أن يكون التغيير خاضعاً لمطالب حقوقية أو مدنية، ففي هذا خرق لعلاقة الإذعان المفروضة على المواطن في أكثر من دولة عربية. عدا أن الناشطات تحدينَ الدور التقليدي الذي تفرضه بعض الحكومات على المرأة، وكأن في أنهن نساء تحدّياً لرجولة المسؤولين، وهي حالة تعرضت لها ناشطات عربيات كثيرات، فحقوق المرأة منوطة، في بعض البلاد العربية، بإرادة الحاكم ورؤيته "الدينية" التي تخضع لقرار سياسي، لا يعكس بالضرورة فكراً تنويرياً، أو باعتراف بالحقوق المدنية، وهذا لبّ النضال من أجل إحقاق المواطنة، يُعاقَب عليه الرجال والنساء، فيما يختلط، أحياناً، غضب ذكوري من السلطات الحاكمة على الجنس الأضعف في رأي هؤلاء في السلطة خارج السلطة.

ولكن من الضروري فهم ما يحدث في سياق سياسات إدارة الرئيس بايدن التي تريد الحدّ من أضرار "أخطاء ترامب في المنطقة" على مصالحها الاستراتيجية، فنجدها تضغط على حلفاء الولايات المتحدة بقوة، باتجاه وقف الحرب في اليمن، علماً أن واشنطن هي التي شجعت هؤلاء الحلفاء على خوض حرب في اليمن، اعتراضاً على التدخل الإيراني، وتحت مسمى دعم الحكومة الشرعية، في عهد الرئيس الديمقراطي السابق، باراك أوباما، وقد درّت الحرب أرباحاً خيالية على تجارة الأسلحة الأميركية، حتى قبل رئاسة ترامب الذي ضاعف هذه الأرباح، بإجباره دولاً خليجية على شراء مزيد من الأسلحة. ولكن الحرب لم تحدّ نفوذ إيران وتأييدها الحوثيين، فتدفقت الأسلحة من كل صوب على اليمن، البلد الذي تُرك أهله يُعَذَّبون ويقتلون ويشرّدون تحت نار القذائف والمتفجرات ورعب الكوليرا والجوع، ثم أصبح استمرار الحرب عبئاً على الإدارة الأميركية، وقد تعرقل عودتها إلى المفاوضات مع إيران، وإن بشروط قاسية.

حكاية الناشطات السعوديات ملهمة لكل من يطمح إلى التغيير في الحقوق المدنية والقانون في العالم العربي

قضية حقوق الإنسان محقة، ولكن الولايات المتحدة ترى أن في وسعها أن تستثمرها في تعميق العلاقات الخليجية الإسرائيلية، وهذا غير أخلاقي بشأن السعودية وغيرها. ومعلوم أن الأمن الإسرائيلي، او الهيمنة الأمنية الإسرائيلية على الفلسطينيين والمنطقة، محرك رئيس للخطوات الأميركية التي لن تفعل شيئاً لحقوق الإنسان الفلسطيني تحت الاحتلال.

لا يمكن إنكار أن حكاية الناشطات السعوديات تبقى ملهمة لكل من يطمح إلى التغيير في الحقوق المدنية والقانون في العالم العربي. والحديث عن البعد السياسي للموقف الأميركي فيها لا يلغي هذه الحقيقة، ولا يقلل من تقدير شجاعة الناشطات وتضحياتهن، غير أنه من دون محاولة فهم الأبعاد السياسية قد نفقد وضوح الرؤية، ولا نفرق بين سياسات استعمارية واستراتيجية أميركية والمعركة من أجل الحقوق المدنية.